منذر المصري يكتب: هذا الجحيم هو الوحيد.. وطني
إحدى الأفكار القليلة التي لا يختلف عليها، رغم غرابتها، في مختلف أنواع جلساتنا، نحن بقايا السوريين، في المناطق التي ما زالت تسمح بهكذا جلسات في سوريا، هي؛ أن هناك خطة مدبرة لتفريغ سوريا. والكلام هنا ليس عن ملايين النازحين في مخيمات الدول المجاورة، تركيا، اللبنان، العراق، الأردن… ومصر. مع أنه التفريغ الأكبر بالتأكيد، بل عن مئات الألوف من المهندسين، الأطباء، حملة الشهادات الجامعية من كافة الاختصاصات، والشهادات عليا في العلوم، الأدباء، الشعراء، الرسامين، المصورين، الموسيقيين، الممثلين، المخرجين السينمائيين، أصحاب الحرف… الذين ولدتهم سوريا ليرسموا، لا بل ليكونوا هم أنفسهم، مستقبلها على كافة الأصعدة.
قلت لا يختلف عليها، بمعنى أن الجميع يقرّ بها، ولكن في الحقيقة، تختلف تفسيراتها إلى حدود التناقض، فأغلب المعارضين، يرون أنها خطة مدبرة من النظام السوري نفسه، الذي يعتبر كل من يخالفه عدواً وخائناً، وإن لم يكن إرهابياً فهو داعم للإرهاب بطريقة أو بأخرى.
النظام الذي أوضح مراراً عدم قبوله بالرماديين، أي أن على كل مواطن سوري إما أن يكون معه، ويصطف بجانبه، أو عليه، إذا لم يكن من أولئك الذين يستطيعون حمل السلاح، أو لا يرغبون بحمله، أن يخرج من سوريا، بلده، فهي ما عادت بلده.
بل ربما يذهب بعضهم، إلى أفكار أشد تطرفاً من ذلك، واعتبار كل ما يحدث، إضافة لحملات التشييع الجارية منذ سنين عديدة، والتي تدعمت، حسب مصادرهم، بتوطين آلاف الإيرانيين والعراقيين في حمص، وفي حي السيدة زينب في دمشق! مخططاً سورياً إيرانياً لتغيير الطبيعة الديموغرافية للشعب السوري. وذلك لضمان بقاء النظام الطائفي بعرفهم، واستمرار سيطرة، المحور الشيعي على ذلك القوس الممتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق إلى بيروت.
فيما يرى الموالون أن المخطط هو من قبل دول اقليمية كالسعودية وقطر وباقي دول الخليج، ومعهم تركيا، ترى في سوريا، نظاماً وشعباً، وبسبب ذلك الاختيار الاستراتيجي ذاته الذي اختاره النظام السوري كوسيلة بقاء ومقاومة، ما يهدد بقاء واستمرار أنظمتها المذهبية والأسروية والقبائلية ما قبل سياسية ودستورية، المرتبطة بالمصالح الأمريكية الغربية، المعروفة نواياها، القديمة والحديثة، تجاه المنطقة. تلك النوايا التي لم يخفها الغرب في أي مناسبة أو مفصل تاريخي، منذ نهاية الثورة العربية الكبرى، ونكوص بريطانيا بكل وعودها، حتى نهاية حقبة الاستعمار، والخروج من المنطقة بعد تجزئتها إلى دول صورية، تفتقد كل منها إلى أغلب مكونات الدولة الطبيعية، إلى المزيد من التقسيم والمزيد من الحروب المذهبية بين شعوبها، والمزيد من التخلف والفقر، وبالتالي المزيد من السيطرة والنهب. مستشهدين بمخططات وخرائط تضمنتها تقارير مراكز الدراسات، ومنها التابعة للبنتاغون، تظهر الوطن العربي مجزأً إلى ما يزيد عن مائة دولة!؟
نعم، ما ذكرت آنفاً ليس أكثر من عرض لحالة سورية عامة. ولكني أعترف أنها بالنسبة لي تشكل، لا أكثر ولا أقل، من نكبة شخصية. حاولت يوماً كتابتها في مقال بعنوان (سوريا ليست بحاجة لعازفي بيانو)، يقوم على فكرة بسيطة وهي جرد أسماء أصدقائي على أنواعهم الذين ما عاد يجيبون على اتصالاتي الهاتفية، بسبب سفرهم. لكن القائمة طالت، والمقال استفاض، لدرجة أني خشيت أن يكون، من حيث أرغب أو لا أرغب، شبه إخبارية أمنية عنهم وعن أماكن تواجدهم. نعم.. كثيرون ممن كانوا يشكلون معنى حياتي، وكثيرون ممن كانوا يشكلون معنى المكان، سافروا.
أصدقاء حميمون، يوميون، كانوا بالنسبة لي أشبه بالهواء والماء والقصائد. آثروا أن يحملوا ما يستطيعون من حياتهم، ما تستطيع أن تحمله قلوبهم، وغادروا. غادروا ليس بخيارهم أبداً، غادروا ضائعين، خائفين، ممزقين، غادروا حاملين معهم آمالهم بحياة أفضل، ولكن كأنهم بهذا، يأخذون معهم آمالنا جميعاً.
أعلم أعلم، وأوافق، أنه من حق كل إنسان، فما بالك بالسوري اليوم، أن يغادر ويبحث عن الأمان والمستقبل له ولأبنائه في أي بلد في العالم، ولكن ارحميني يا سحر عبد الله، ارحميني يا سهيلة لادقاني، ارحمني يا ماهر أبو ميالة ويا مصطفى عنتابلي، أرجوكم لا تفرحوا كثيرا بخروج من تحبونهم من الجحيم السوري.. هذا الجحيم هو الوحيد.. وطني..
(المصدر: هنا صوتك)