الانخراط في السياسة على طريقة الأسد
يزيد صايغ
مقال تحليلي 05 شباط/فبراير 2015
الرئيس السوري بشار الأسد «يمارس السياسة»، فقد سمح بمشاركة وفد رسمي في محادثات مع مجموعة من الشخصيات المعارضة التي تفتقر غالباً إلى الصفة التمثيلية في موسكو في أواخر كانون الثاني (يناير) الماضي، حيث وصف ذلك في مقابلة حظيت بدعاية كبيرة مع مجلة «فورين أفيرز» (Foreign Affairs) الأميركية في 20 كانون الثاني، بأنه تحضير لعقد مؤتمر للتفاوض على حلّ سياسي للصراع. كما أكّد الأسد استعداد سورية للمشاركة في اقتراح المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا لـ «تجميد القتال في حلب»، موضحاً أنه ينتظر قيام فريق دي ميستورا بتقديم خطة مفصّلة أو جدول زمني للمناقشة. وبعد انقطاع دام ما يقرب من العام، أجرى الأسد مقابلات مع ثلاث وسائل إعلام أجنبية في غضون ستة أسابيع.
بعيداً من الأنظار، يزعم بعض الموالين للنظام بأن «لحظة جديدة» قد حانت لجهة استعداد النظام للانخراط بصورة بنّاءة مع محاوريه السوريين والدوليين. بيد أن النظام يسعى إلى كسب الوقت ليس إلا، فقد وضع نظام الأسد نصب عينيه هدفاً مختلفاً يتمثّل في تأمين استعادة الاتصالات السياسية المباشرة مع الولايات المتحدة، وقبول أميركي، ضمني على الأقل، بسيطرة النظام الفعلية على سورية، من دون تقديم تنازلات جوهرية في المقابل. وعليه، فإن حسابات النظام تبدو بسيطة. فهو يضع في اعتباره أن تحقيق تقدم في الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق سيضعف التنظيم أيضاً في شمال شرق سورية، وأن الولايات المتحدة سوف تحتاج بعد ذلك إلى شريك محلي لمنع تنظيم «الدولة» من إعادة تجميع قواته في المحافظات السورية بهدف استعادة نشاطه وقوته للعودة إلى العراق، كما فعل في عامي 2013 و2014.
يرى النظام أنه هو الشريك المجدي الوحيد للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في شمال شرق سورية. فالفوضى التي يعاني منها «الجيش السوري الحر» السابق تعني أنه لن ينشط ويعود إلى الحياة هناك، وأن حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي» لن يتجاوز منطقة الحكم الذاتي في الحسكة. ولذا فإن النظام يعمل على تعزيز موقفه محلياً بصورة أكبر. فبعد أن بدأ إعادة بناء العلاقات مع العشائر المحلية في دير الزور في الصيف الماضي، يقوم النظام الآن بالأمر نفسه في الحسكة، وقد يفعل ذلك في محافظة الرقة في مرحلة تالية. ومن المرجّح أن يعكس انهيار صيغة التعايش الموقّتة بين النظام وقوات «حزب الاتحاد الديموقراطي» في الحسكة مؤخراً محاولة من جانب النظام لتحسين موقفه الاستراتيجي ودعم زعمه بأنه القوة الوحيدة التي يمكنها تأمين المنطقة الحدودية مع العراق.
وبما أن القيادة المركزية للجيش الأميركي تخطّط لاستعادة السيطرة على الموصل، المعقل العراقي الشمالي لتنظيم «الدولة الإسلامية» قبل صيف العام 2015 إن لم يكن قبل ذلك، فقد لا يضطر نظام الأسد إلى الانتظار طويلاً. ولذلك فهو يعتبر الحديث عن حوار سياسي مع المعارضة السورية وتجميد القتال في حلب بمثابة مناورة موقّتة، يأمل بأن يتم تجاوزها قريباً عبر تفاهم أبعد تأثيراً مع الولايات المتحدة ينطلق من التكامل المفترض بينهما ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الوقت نفسه، يروّج الأسد ومسؤولون آخرون في النظام لوجهة نظرهم القائلة إن أي حوار سوري- سوري يجب أن يكون «داخلياً»، أي أن يعقد تحت مظلة النظام مع محاورين يوافق هو عليهم، وإن أي وقف لأعمال العنف، سواء كان عاماً أو جزئياً، يجب أن يكون مصحوباً بإعادة تأكيد سلطة الدولة المركزية بقيادة الأسد.
ولعلّ هذا ما يفسر عدم استجابة النظام للوثيقة التي وافق عليها طيف من المعارضة في القاهرة في أواخر كانون الثاني، والتي أحجمت بصورة واضحة عن اشتراط رحيل الأسد من السلطة إمّا كشرط مسبق للتسوية السياسية أو كهدف نهائي لها. وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن اجتماع المعارضة أقرّ المبادئ الأساسية لخطاب النظام نفسه: مكافحة الإرهاب واحتكار الدولة لحمل السلاح ووحدة شعب وأرض سورية. بيد أن النظام اختار تجاهل لقاء القاهرة تماماً وتسليط الضوء على محادثات موسكو على الرغم من افتقارها أي مضمون. وفي ما يتعلق بمناقشة تجميد القتال في حلب، فقد أكّد الأسد افتراضه بأن ذلك سيكون تكراراً لوقف إطلاق النار بوساطة من الأمم المتحدة في مدينة حمص في أوائل العام 2014، الذي أعاد معظم مناطق الثوار في المدينة لسيطرة الحكومة، والذي تعتبره المعارضة نموذجاً غير مقبول بالنسبة إلى حلب.
يتوقع النظام على ما يبدو أن تذعن الولايات المتحدة في نهاية المطاف لهذه الشروط للتوصل إلى تسوية داخلية للنزاع السوري. وقد أشار الأسد إلى هذه التوقعات بالقول، في مقابلته مع مجلة «فورين أفيرز»، إلى أن الوقت قد حان بالنسبة الى الولايات المتحدة للحصول على «إذن» رسمي من حكومته لمواصلة الحملة الجوية التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سورية. أما على الجانب الأميركي، فإن تغير الموقف من محادثات موسكو، من الفتور الأولي إلى الترحيب العلني، والتشاور المستمر مع روسيا لإصدار بيان جديد من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بشأن ما تبقى من مرافق البحث والتطوير في سورية، يشير إلى محاولة وضع إطار دبلوماسي جديد بالاشتراك مع روسيا، من شأنه أن يتيح وسيلة للولايات المتحدة لتحفظ ماء وجهها للتكيّف مع بقاء الأسد بصورة أكثر رسمية. ومهما بدا هذا صعباً في الوقت الحاضر، فإن تحقيق تقدم كبير ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» سيمكّن الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع روسيا، من التوصل الى اتفاق بشأن سورية بطريقة مختلفة.
بيد أن ذلك لن يمنح نظام الأسد الفرصة للتخلّص من ورطته كما يأمل، إذ يبدو إيمانه ضعيفاً بقدرته على انتزاع إعادة الاتصال السياسي الرسمي مع الولايات المتحدة من دون تقديم أي التزام موثوق بأي من الشروط الأساسية للتسوية السياسية الداخلية الدائمة، على النحو المبيّن في بيان «جنيف1» في حزيران (يونيو) 2012، ذلك أن الولايات المتحدة ستستمر في المطالبة بتسوية تتجاوز الأمر الواقع، ولن تضفي صفةً شرعيةً على «المحصِّلة» الفعلية للصراع من الناحية السياسية. فلا تزال هناك فجوة خطيرة بين ما تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه وبين ما يبدو النظام مستعداً للتنازل عنه، وهو قليل جداً في الواقع، وستضغط واشنطن على شركائها الإقليميين الرئيسيين لدعم موقفها.
الأرجح أن الولايات المتحدة ستتخلى عن الجهود الرامية إلى إسقاط الأسد، من دون الاعتراف بشرعيته أو استئناف الاتصالات السياسية المباشرة معه. وربما يكون هذا كافياً لنظامه لكي يبقى، ولكن مع تناقص موارده أكثر من أي وقت مضى، فقد أدّى تركيز الصفقات التجارية في أيدي عائلة الأسد وأقاربه إلى مغادرة العديد من رجال الأعمال الذين شكَّلوا في السابق دعامةً أساسيةً للنظام، وإذ يأتي سلوك النظام في وقت يبدو فيه بحاجة ماسة إلى الدخل لدرجة أنه منح القطاع الخاص الحق في استيراد النفط للتعويض عن عدم كفاية الإمدادات الإيرانية، فانه يدلّ على عدم رغبته في تغيير الطريقة التي يعمل بها.
إن اقتناع النظام بأنه سيجبر الولايات المتحدة، من خلال التصلّب في موقفه، على قبول شروطه وجعل حلفائها في المنطقة يحذون حذوها، يمثّل مقامرة شديدة الخطورة. النظام سوف يبقى، ولكن ذلك سيكون في سورية التي تشلّها باستمرار الخسائر الفادحة في القوة العاملة والبنية التحتية والصناعة والفرص الاقتصادية، وتخضع لعقوبات دائمة.
(المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط)