ديمستورا التائه
بقلم: عصام خوري
منسق مركز التنمية البيئية والاجتماعية
الشعوب المحطمة دائما ترمي نفسها في المواقع الاقل ضررا
كثرت الدعوات والمؤتمرات الدولية والاقليمية المعنية بمناقشة خطة المبعوث الدولي ديمستورا وآفاقها في سوريا، وهي خطة من حيث المحتوى غنية بالتفاصيل والشركاء وتحمل لوحة ممنهجة لتحييد المدنيين عن النزاع العسكري، ولكن ان تعمقنا بواقع الشركاء الميدانيين الفاعلين فيها على الارض ندرك انها رسم جميل لامل صعب التنفيذ.
مما لا شك فيه ان حلم دمستورا ومحيطه الداعم سواء اكان اكاديمي اومدني هو صحيح البوصلة، ولكن المشكل ليست في نزاهة الحلم بل بغياب امكانية احضار بوصلة لواقع قائم على الهزات اليومية.
مقارنة بين تجربة حمص وحلب:
استبعد الخطاب الاكاديمي الفشل في مبادرة المبعوث الدولي مستندا لنجاح تجربة حمص، رغم الفارق الكبير بين المدينتين.
فتجربة حمص ما كانت لتتم الا بعد سياسة قهر كاملة وخسائر واضحة للمعارضة، فكان خروج الاهالي المدنيين والمسلحين من حمص القديمة خروج المهزوم وليس خروج المتكافئ مع الخصم، كما ان التجربة لم يكتب لها النجاح الكامل كما يشيع الاعلام بل تحول النزاع من منطقة المدينة القديمة الى منطقة الوعر، وللاسف بدل ان تحمل نفسيا مبادرة حمص شعور التصالح الاجتماعي، خلقت شعور هزيمة طائفة على حساب طائفة، وتهجير قسم كبير من اهالي حمص دون وجود بدائل تحميهم.
شخصيا ارى تجربة حمص هي محصلة نتيجة انتصار طرف على اخر، وليس مبادرة. طبعا قد يقول البعض “النجاح هو حالة نسبية ولا يمكن ان يكون مطلقا في حالات الحروب الاهلية”
وهذا القول صحيح ان كانت المبادرة شاملة كما حدث في مبادرة الطائف في لبنان التي انتجت حقن الدم المدني اللبناني مقابل خسارة المسيحيين اللبنانين لمناصبهم، ولكن في التجربة السورية هناك كما يبدو مبادرة لكل مدينة وهذا يعني استراتيجيا “هزام متوالية”…
فكرة الهزائم المتوالية هي فكرة لا تستقطب جمهورا، فالانسان بطبعة يعشق الانتصار، ولكنه يضطر للهزيمة، ولا يمكن ان يقبل بالتصالح الا من منطلق مصلحي قائم على التوازن… وهو ماليس موجودا في حلب.
فتجربة حلب مختلفة تماما عن حمص، لان المعارضة فيها ليست مهزومة، رغم محاولات النظام والمليشيا المساندة له تحقيق خروقات عسكرية عديدة في الاشهر الماضية، ثم المعارضة في حمص كانت محاصرة، بينما في حلب العكس “النظام هو المحاصر” والمساحة الاكبر هي للمعارضة.
الخطأ الاكاديمي لديمستورا انه يطرح مدينة حلب كجزيرة منعزلة عن محيطها، وهذا الامر يمكن استساغته في محاضرة او ورشة عمل، ولكن لا يمكن انه يفهمه الانسان الحلبي وخاصة الريفي الذي اعتاد تاريخيا ان ينزل لحلب ليدير اموره الادارية كاملة، وكون المعارضة المسلحة الحلبية جلها في الريف، فهم نفسيا غير قادرين على تخيل انفسهم بدون حلب المدينة.
يضاف للمعارضة الحلبية المسلحة وجود قوى مسلحة اجنبية باتت عنصرا نافذا في القرار بم تملكه من سلاح وعتاد، وفكرة ان تقبل المعارضة السورية باتفاقية ديمستورا سيعني ان المعارضة المسلحة الاجنبية “الجهادية” ستتحول لعدو للمعارضات المسلحة الحلبية السورية، وقد تدفع تلك المعارضات للالتحاق بتنظيم الدولة الاسلامية، وهذا يعني مخاطر متفاقمة على مدينة حلب الغنية بالاثار المعرضة للدمار والغنية بالاقليات الارمنية والكوردية والمسيحية السورية التي قد تتعرض للتهجير من منازلها او للجزية، وهذا سيعني اننا نحل اشكال ونخلق اشكالات اخرى والسبب عدم فهمنا لخصوصية الانسان الحلبي “ابن الريف وابن المدينة” وعدم فهمنا لطبيعة القوى المسيطرة على الارض.
قبل ان تطرح مبادرة ديمستورا بشكل ممنهج بادرت الزميلة د. ريم تركماني العضو في التحالف المدني السوري للاتصال مع كل المنظمات العضو في التحالف لمعرفة راي نشطائها في حلب وقدرتها على انجاح المبادرة، مركز التنمية البيئية والاجتماعية والالتزاما منه بسياسة التحالف قام بالتواصل مع نشطائه الفاعلين في حلب، فكانت الردود سلبية، واوضح جواب وصلنا من شخصية عشائرية مؤثرة في الريف الحلبي مفادها:
((لينجح أي اتفاق عليكم اقناع شخصيات بحجم صلاح الدين الشيشاني بالمبادرة))
طبعا هذا الجواب يحمل وضوحا ان حاولنا فهم من هو شخص “صلاح الدين الشيشاني”.
فالشيشاني: هو قيادي لجيش المجاهدين والانصار وهو جهادي رفض مبايعة البغدادي والجولاني، ويمتاز بعلاقة احترام من الطرفين خاصة وانه يدين بالولاء لامير دغستان في القوقاز.
نعم ريف حلب هو منطقة نزاع حتى ضمن التشكيلات المعارضة، واكبر تاكيد على هذا الامر محاربة النصرة لتنظيم “جبهة ثوار سوريا” وطردها من ادلب وحلب، ثم محاربتها خلال شهر شباط لتنظيم حركة حزم المدعومة اميركيا والمحتضنه من قبل الاتلاف الوطني السوري.
ايضا ان تمعنا بعلاقة النصرة مع باقي التنظيمات العسكرية في حلب ندرك ان عدد مقاتلي النصرة غير كاف لملا الفراغ في كامل محافظة حلب، لذا فان انتصر التنظيم في أي معركة فانه يسلم ادارتها العسكرية لبعض الكتائب الاخرى التي يضمن انها غير موالية للتحالف الدولي الذي اعلن محاربته للنصرة ولتنظيم الدولة الاسلامية.
صلاح الدين الشيشاني هو احد امراء الحرب السورية وبكل تأكيد يزرع نوع من الوساطة والتوازن بين معسكر المتشددين الراديكاليين الجهاديين، فيذكر انه قام بوساطة بين تنظيمي النصرة والدولة الاسلامية وهذه الوساطة لم يكتب لها النجاح بسبب تعنت الطرفين، من هنا ندرك في حال رضي معارضوا حلب المسلحين بالوساطة فان الجزء المتطرف منهم سيتحول مباشرة لمناصرة تنظيم الدولة الاسلامية كونه شرعيا يرفض التفاوض مع نظام الاسد.
ووفق الفقه الشرعي الجهادي ان أي تفاوض مع نظام الاسد يلغي الاهلية الجهادية للتنظيمات الجهادية، ويجعلها ضعيفة الحجة امام أي تنظيم يستمر في معاداته للاسد، وهذا حكما سيفرغ تلك التنظيمات من العناصر الملتزمة بالنص الشرعي ويدفها للالتحاق بالتنظيمات المستمرة بحربها مع الاسد.
يضاف لهذا الواقع المعقد عسكريا في محافظة حلب وجود عامل اطمئنان للمقاتلين المعارضين متمثل بالحدود الواسعة المجاورة لهم (حدود الدولة التركية القوية عسكريا والتي تحتضن “الاتلاف الوطني السوري المعارض”) وهذه الحدود تحتضن قرابة مليوني نازح ونازحة سورية، وهؤلاء النازحين لا يستطيعون العودة لسوريا ان لم تشتمل خطة ديمستورا على تأمين مناطق الريف الحلبي بالاضافة للمدينة، خاصة وان الريف هو الاكثر دمارا اذا ما قورن بحلب المدينة، وهذا الامر بالحقيقة لم تراعيه خطة دمستورا، مما جعلها بعيون ابناء الريف الحلبي خطة تحاكي برجوازية حلب الذين كانوا دائما الى صف النظام السوري… مما دفع المعارضة السياسية والعسكرية لاعتبار هذه الخطة بصالح النظام، واقترحوا بدائل لها وهي “منطقة حظر جوي” وهذه البدائل تلاقي رضى من قبل الحكومة التركية التي وضعت على راس اولوياتها ضرورة تنحية الاسد عن السلطة، وهو امر يغازل الهوى الشعبي المعارض، مما يلغي أي فرصة لتسوية سياسية بظل وجود الاسد.
بدائل خطة ديمستورا:
فن التخطيط يقتضي وجود بدائل دائمة لاي مقترح، وفعليا حتى الان لا وجود لاحتضان دولي لاي خطة باستثناء خطة ديمستورا، وهذا بحق هو امر خطير، لان الازمة السورية تختزل اليوم بمدينة واحدة مما يعني استهتارا بحق الدمار والقتلى السوريين المنتشرين على كل الارض السورية، وكل ما يحدث في الاعلام هو تصريحات منتقدة للاسد وللارهاب، وهذه التصريحات تبعد فكرة التدخل البري وتحصره بالعمليات الجوية التي يقوم بها التحالف الدولي ضد تنظيمات “احرار الشام، الدولة الاسلامية، النصرة” في الشمال السوري حصرا، بالاضافة لسلسلة عمليات جوية نوعية من قبل الاسرائيليين تستهدف مستودعات النظام السوري وحزب الله.
هذا الواقع يبين غياب وجود استراتيجية حقيقية للتعاطي مع الملف السوري، وحتى عندما يعرض الحرس الثوري الايراني نفسه كبديل عن النظام في مناطق الفوضى الادارية، نرى تجاهل حقيقي للرأي الشعبي الذي يفضل أي طرف سني مهما كان متخلفا على الطرف الشيعي الذي اثبت طائفيته وحقده في العراق وفساده المطلق في سوريا عبر دعمه لسلطة الاسد الذي نكل بالسوريين عبر آلة الحرب التي يمتلكها.
نعم ان فكرة زرع الشوك في ارض رطبة هو امر مستحيل فلا يمكنك تجفيف الارض بعمر بسيط وحتى بحرب اهلية قصيرة العهد.
سوريا اليوم بثورتها ونزاعاتها العسكرية المتعددة تحتاج لمنهجية تنظم اولويات الحل، واولى الاولويات هي:
المرحلة الاولى: (طرد العنصر المؤسس او المسبب لعصر امراء الحروب)
وهنا علينا الحديث بداية عن مصير الاسد، لان وجوده اليوم هو عنصر جذب للتطرف، بالاضافة الى ان اسمه هو جذاب لاستمرار الصراع العسكري، وفي ظل عملية اقصائه يجب ان يحصل المجتمع الدولي على تعهدات جدية من الدول النافذة على الجماعات المسلحة بضرورة ان تجمد حركتها العسكرية لحين الوصول لطاولة حل سياسية، وهذا لن يتم الا عبر وقف الدعم المالي والتعاون مع امراء الحرب كافة.
المرحلة الثانية: (مرحلة الحكومة الانتقالية)
والتي يفترض ان تقاد من قبل نائب رئيس الجمهورية المتعاون مع المعارضة المعترف بها دوليا من قبل مجموعة اصدقاء سوريا، بالاضافة لممثلين معارضين يمثلون وجهة النظر الروسية، وقيادات مجتمع مدني لها تأثيرها الخدمي الاجتماعي في شؤون الحقوق السياسية.
ويكون على كاهل هذه المعارضة المدعومة دوليا وفق البند السابع بناء دستور جامع يضمن حقوق الانسان ويحقق العدالة ويضمن أمان انساني قانوني للجميع.
خلال المرحلة الثانية لن يكون تطبيق العدالة امرا سهلا مع انتشار السلاح بين مختلف الكتائب وبين المدنيين انفسهم، وستظهر تجاوزات عديدة تخرق القانون وهو امر متوقع في ظل الفوضى الادارية، لذا ستتنامى العشائرية وثقافة مليشيا حماية الاحياء ضمن المدن، الا ان هذه الامور ستتقلص مع الزمن الكفيل ببناء المؤسسات على اسس قانونية عصرية.
طبعا في حال نجاح المرحلة الثانية فان الامان والاستقرار سيبدأ في المدن، ومع الزمن سيتوسع ليشمل ضواحي المدن وصولا للارياف، وهذا لن يكون الا عبر تطور دور جهاز وزارة الداخلية، وانصهار مقاتلي الجيش الحر مع الجيش النظامي وتوحد الرؤية لضرورة محاربة التطرف واللصوص وقاطعي الطرق.
بخلال هذه المراحل، فان النزاع العسكري في سوريا سيستمر ويجلب مزيدا من التطرف والعصبيات الدينية والطائفية ليس على سوريا وحدها بل لعموم المنطقة، وقد نرى عدة مبادرات دولية فارغة المحتوى هدفها تمرير الوقت لاشعار الشعب بمزيد من اليأس عله يرضى بالاهون.
سوريا اليوم دولة فاشلة سواء اكانت في مناطق المعارضة او المولاة، ولا ضرورة لان نوازن بين الافضل والاسوء بينهما، فكلاهما سيء ولا يحقق أي حالة مثالية او قريبة للمثالية تفعل معايير المواطنة والعيش الكريم… وليحدث التحول الحقيقي علينا كسر الاصنام السياسية من مخيلتنا وفي الواقع، والبدء بعملية البحث عن بدائل تصنع سوريا المستقبل الغير مؤذية لجيرانها والغير مصدرة للارهاب…