الحريّة الإسلاميّة في مواجهة خصومها !
تعيش مجتمعاتنا أزمةً عميقة مع مفهوم الحريّة. وإن كان الربيع العربي قد أظهر العيوب التطبيقيّة للفكرة ضمن الأماكن التي تحرّرت (جزئيّاً أو كليّاً) من سلطة الأنظمة، إلا أنّه وجّه أنظارنا نحو خلل أعمق على مستوى فهم هذه القيمة والإيمان بها، وهو ما أنتج عملياً تطبيقاتٍ مشوِّهةٍ للفكرة أو معادية لها على أرض الواقع. يشبه البحث عن جذور الفكرة في ثقافتنا عمليّةَ التنقيب عن كنزٍ نحن اليوم في أمسّ الحاجة إليه، ولكنّ عملية التنقيب هذه محاطة بالعديد من التعقيدات، فهي ليست رحلة استكشافيّة ممتعة كما قد يظن الباحث للوهلة الأولى، بل هي مهمّة شاقّة محفوفة بأخطار سوء الفهم والتشكيك.. بل والتكفير ربّما !
عند البحث عن قيمة الحريّة وموقعها في تراثنا ونصوصنا التأسيسيّة الأولى نجد أنفسنا في مواجهة تيّارين: التيّار الأوّل هو التيّار الدينيّ المؤدلج، أخصّ منه الجماعات السلفيّة (بأقسامها: العلميّة والحركيّة والجهاديّة) وأضمّ إليها بقيّة تيّارات الإسلام السياسي التي تتقاطع مع السلفيّة على مستوى الروايات التاريخيّة المعتمدة لتأصيل الموقف من الحريّة. من ناحية ثانية سيكون خصوم الإسلاميين (من علمانيّين وليبراليّين ولادينيّين) عائقاً أمام عمليّة البحث في النصوص التأسيسيّة للإسلام.
لا يؤمن التيّار الدينيّ في عمومه بأصالة هذه القيمة إسلاميّاً، ويرى أنّ الخوض فيها يأتي استجابةً للغزو الثقافي الغربي، الذي أطلق ثورة على صعيد الحريّات العامّة، ولذلك كان هذا التيّار دائم التشنّج أمام أي محاولة لمساءلة مظاهر الاستبداد في الواقع والتاريخ الإسلاميّين. بالمقابل كان موقف خصومهم لا يقلّ شراسة في مواجهة البحث عن هذه القيم، وشكّل موقفهم عائقاً لا يقلّ خطورة أمام محاولات إعادة إحياء هذه المفاهيم الغائبة، وإن كان دافعهم مختلفاً عن دوافع الإسلاميّين.. فهؤلاء كانوا أكثر يقيناً من كون الحريّة بكامل مضامينها لا تنتمي إلى الإسلام في شيء، وأنّ الإسلام دينٌ يقع الإكراه في صلب تكوينه، وينطبق عليه (وفق تصوّراتهم عن الإسلام) ما انطبق على الأديان التي سبقته. عند هذا المستوى لم يكن خصوم الإسلاميّين على عداء مع فكرة الحريّة، وإنّما كانوا خصوماً للفرضيّة القائلة بأنّ الإسلام عقيدةٌ تقبل الحريّة، وكانوا أعداء لدودين لفرضيّة أخرى تقول إنّ الإسلام هو (بتعبير أو بآخر) عقيدة الحريّة !
يتّفق التيّاران على كون الإسلام بريء من تهمة “الحريّة” ! ويحمل هذا الاتّفاق في كواليسه (غيّر المصرّح عنها) صراعاً أيديولوجيّاً هويّاتيّاً بين الطرفين، فالتيّار الدينيّ حملت هويّته الإسلاميّة هاجس تحقيق الضوابط المحكمة وسد ذرائع الفتن بمختلف أشكالها وأسبابها، وما يزال حلم هذا التيّار بدولة الخلافة يتماهى في مكان ما من اللاشعور مع دولة المتغلّب القويّ، ممثّلة بالدول التي ولدت بعد العهد الراشديّ، وكانت دولاً استبداديّة مع بعض الاستثناءات، وكان لهذه الدول (التي ارتبطت صورتها بدولة الإسلام في المخيال الجمعي أكثر ربما من ارتباط الدولة الراشدة) الدور الأكبر في تشكيل موقف التيّارات الإسلاميّة من الحريّة.. فالإيمان بأصالة هذه القيمة في النص الإسلاميّ القطعيّ يجعل من شكل الدولة الحلم موضع تشكيك ونقد، وهذا ما سيخضع التجربة التاريخيّة بأكملها إلى عمليّة نقد وإعادة تقييم.. بكلمة ثانية: لن تكون إثارة حوار حول “الحريّة الإسلاميّة” مع هذا التيّار كإثارة بقيّة الأفكار التي تفرضها الحياة المعاصرة.. فالقيمة التي نحن في صدد الحوار حولها تجعل جزءاً هامّاً من منظومة الأفكار (المدعّمة بالقهر والإكراه والمسلّمات الخاطئة) تتهاوى كأحجار الدينامو ! علاوة على كونها القيمة التي شكّلت هويّة لحضارة الغرب، فكان الحديث عن الحريّات بالنسبة لمجمل التيّارات الدينيّة يصطدم من ناحية بحلم دولة الإسلام المتغلّبة، ومن جهة ثانية كانت هويّة للحضارة التي أجهزت على النسخة الأخيرة لدولة الخلافة في اللحظة التي أصبحت معها السيادة للغرب بالمطلق.. بسبب هذا الواقع التاريخي والثقافي المعقّد تقع فكرة الحريّة ضمن الحيّز المشبوه والمشكوك فيه داخل المنظومة الفكريّة السلفيّة، فهي (بحسب النظرة السلفيّة العامّة) مكوّنٌ غربيٌّ يؤدّي بالمجتمعات إلى إشاعة ثقافة الجنس والتساهل مع الميول والرغبات الجنسيّة، وهذا سيؤدي بدوره إلى نشر الإباحية والرذيلة وهدم العلاقات الفطرية 1 بين الرجل والمرأة، وسلب قوامة الرجل وتفلّت المجتمعات بشكلٍ أو بآخر..
ميّز خصوم الإسلاميّين أنفسهم أيديولوجيّاً وهويّاتيّاً بآليّة مشابهة، وإن كانت معاكسة، فكانت فكرة الحريّة الإسلاميّة مستنكرةً عند عموم أتباع هذا التيّار.. إن أصالة قيمة الحريّة إسلاميّاً من شأنه أن يلغي فرضيّة امتياز تيّارٍ أقام مقولاته على فكرة عجز الثقافة الإسلاميّة عن مواكبة العصر، وعلى أصالة الفكرة الإكراهيّة في النص القرآنيّ والحديث النبويّ والتجربة التاريخيّة للمسلمين.. قد تكون مقولات عجز الثقافة الإسلاميّة ناتجة عن تبعيّة هذا التيّار للغرب، أو قد تكون هذه التبعيّة قد حدثت نتيجة العجز الحضاري الذي دفع كثيرين للانبهار بالحضارة المتغلّبة ثمّ تبنّي مجمل أفكارها وتصوّراتها، بما فيها التصوّرات والأحكام التي أطلقها فلاسفة الغرب ومفكّريه عن الحضارة التي ينتمي إليها تيّار التغريب في مجتمعاتنا ! وفي كلتا الحالتين ، كانت أقوال تيّار التغريب عبارة عن تكرار لمقولات فلاسفة الليبراليّة حول الإسلام، والشرق بصفة عامّة، فالدين الإسلاميّ كان مشمولاً في نظر فلاسفة التنوير والليبراليّة ضمن العقائد غير التحررية من وجهة النظر الليبراليّة2.. ولهذا الموقف علاقة بالظرف التاريخي الذي نشأت فيه الليبراليّة في الغرب حين كان ظهورها متصادماً مع الدين بنسخته الكنسيّة. ولكن، والحقّ يقال، فإنّ فلاسفة الغرب وجدوا في بعض الحركات الدينيّة المسيحية بوادر ليبراليّة، فقد أشار برتراند راسل إلى دور الحركة البروتستانتيّة في التطور التاريخي لليبراليّة حين قال: “كانت الليبراليّة أولاً بروتستانتيّة في المحل الأول، ولكن ليس على الطريقة الكالفينية الضيقة، والواقع أنها كانت أقرب بكثير إلى أن تكون تطوّراً للفكرة البروتستانتيّة القائلة: إن على كلّ فردٍ أن يسوّي أموره مع الله بطريقته الخاصة، هذا فضلاً عن أن التعصب والتزمت يضرُّ بالأعمال الاقتصاديّة ” 3.. لقد استطاع سارتر أن يجد في البروتستانتية ملامح تحرّرية، ووجدها قبل ذلك في تجربة أثينا أيضاً، ولكنّه لم يستطع رؤية أيّة ملامح تحرّرية في التجربة الإسلاميّة خلال مراحلها الطويلة ! في حين كان ستيوارت ميل أكثر حدّة وتعميماً في نقده للمجتمعات الشرقيّة التي قال فيها أنّها محكومة (بالمطلق) بما أطلق عليه: استبداد العادة4.
اكتفى تيّار التغريب بتبنّي نظرة فلاسفة الغرب للإسلام، فأصبح هذا الموقف هويّة فكريّة تستنكر النظريات القائلة بوجود ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح “حريّة إسلاميّة”، بينما رضي التيّار الإسلاميّ المؤدلج باحتكار رمزيّة الدولة “الحلم” التي يراها قادرةً على ضمان أسلمة المجتمعات بطريقة أسرع، هي طريقة الغلبة والقهر.. فكان موقف كلٍّ منهما معادياً للنظريّة المغيّبة عن تراثنا..
جرت العادة أن تكون الأنظمة المستبدّة هي المتّهم الأوّل (والوحيد عند بعضهم) في سياق الحديث عن الحريّات الغائبة عن مجتمعاتنا الإسلاميّة، فمن السهل تحميل كامل المسؤوليّة لمن يسيطر على المشهد بأكمله.. ما أدّى إلى تغييب عوامل لا يقلّ دورها أهميّة عن دور استبداد السلطة في خنق الحريّات وتحريم الحديث فيها.. لقد فعلت التوازنات “الأيديولوجيّة” بين تيّارين متنافرين على تثبيت بديهيّاتٍ مغلوطة حول موقف الإسلام من الحريّة، الأمر الذي عقّد مهمّة الباحث عن موقع الحريّة في النصّ التأسيسيّ..
لكنّ النصّ يتحدّى التصوّرات الخاطئة لأتباعه، وتطبيقاتهم المخالفة لمقاصده.. كما يتحدّى تصوّرات خصومهم، وتكاد لا تخلو سورة منه من إشارة أو حضّ مباشر على إعادة التفكير والتنقيب وهدم البديهيّات المغلوطة .. ولعلّ هذا التحدّي لمسلّمات العقل البشري هو ما يميّز النص القرآني..
———————————————
مراجع:
(1) للإطلاع على التصوّر السلفي عن الحريّة يمكن للقارئ مراجعة رسالة ماجستير بعنوان : (مفهوم الحريّة: دراسة تأصيليّة)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، كلية الشريعة، الرياض 1432، ص 75ـــــ80.
(2) للاستزادة فقرة موقف الليبراليّة من الدين، كتاب قيد الطبع للكاتب بعنوان: (قصة الحرية: بين النص القرآني والتطبيق التاريخي للإسلام).
(3) راسل، برتراند، حكمة الغرب، سلسلة عالم المعرفة، منشورات المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، ترجمة فؤاد زكريّا، الكويت 1983، ج2، ص80.
(المصدر: السوري الجديد)