المتنبي والحاكم
المقدمة
المتنبي شخصية عظيمة في عبقريتها. رائعة في شعرها الذي يسمو باللغة النبيلة، والصورة الساحرة، والقيمة الفكرية والجمالية الخالدة.
ولهذه الشخصية في مسيرة حياتها وفي شعرها تجربة إنسانية غنية بالشاعرية الغدة، والرجولة الحقة، والقيم السامية التي تدغدغ أحلام المقهورين على مر العصور.
فالإنسان المقهور في مسار التاريخ يجد في شاعرنا ما يلبي طموحاته، ويداعب همومه وأمانيه، ويعبر عن أدق مشاعر نفسه الإنسانية المعذبة.
والإنسان المستلب له عودة دوماً إلى المتنبي كي يريح نفسه المتعبة بأفكار نبيلة، أو قيم سامية، أو تعابير ساحرة جذابة. وما أكثر المتعبين في وطننا المكلوم! وقد أطبق عليهم ليل التعسف وغابت من دنياهم شمس الحق والعدالة.
وفي مثل هذه الظروف القاسية التي تسلب فيها حرية الإنسان، وتصادر كلمته، وتختصر حياته_ يطل علينا المتنبي بشعره المعبر عن مسيرة إنسانية مريرة. فيها الإحباط والإغتراب، وفيها الموقف والفكرة التي تهز شفاف القلوب الحزينة وتنثر فيها الراحة والأمل.
وفي الفترات التي تشتد فيها تحديات الوطن، وتلتهم قنابل الاحتلال الصهيوني البيوت والناس، ويزج بالكثير في الزنزانات المعتمة_ نستحضر قصائد الشاعر فنقرأها بل نقرأ( تاريخنا وحاضرنا ونحس بآلامنا وجروحنا) وآمالنا_ فيها نجد إنسانية كبيرة الهموم، عظيمة الطموح، غنية المعاناة.
هذه الإنسانية عبرت بالسيف وبالكلمة عن “صحوة وعيها” وعمق رؤيتها لأوضاع متردية سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً. فنادت بالثورة حلاً يعيد بالإنسان حريته فيعطي ويبدع.
إذ لا عطاء ولا إبداع يزجيان من إنسان يطعم عسفاً وتسقى قهراً.
ولما كان المتنبي شاعراً عبقرياً فحاله حال العظماء في ظروف التخلف والقهر. لذلك نجده من البلد يحدد قضيته العظيمة والقوامة في المجتمعات.
أفي كل يوم تحت ضني شويعر قصير يقاومني ضعيف يطاول
فكم البون شاسع بين عظيم يرفض ويتمرد ويثور وبين قزم يجبن ويستسلم؟
وفي مصير إنسان “يقول أحد الأبطال: جئت هذا العالم لأختلف معه”.
والمتنبي جاء عصره ليعري عيوبه، ويناهض ظلمه، كي يعود الحق إلي الأمة، وتعود الأمة إلى الحق:
أفكر في معاقرة المنايا وقود الخيل مشرفة الهوادي”2″
زعيم للقنا الخطي عزمي بسفك دم الحواضر والبوادي
إلى كم ذا التخلف والثواني وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل التعس عن طلب المعالي ببيع الشعر في سوق الكساد
وما ماضي الشباب بمسترد ولا يوم يمر بمستعاد.
والمتنبي وقف في وجه الفساد والانحلال، وبقي في لهيب التمرد والثورة حتى هابه الحكام. هابوا فيه الفكرة الخلاقة الملتزمة.
ولما كان المتنبي شاعراً ملتزماً فإن دراسة أفكاره في ضوء علاقتها بالصيرورة التاريخية هي التي تبرز سر صيرورة شعره، وتظهر سمة”الحياتية” الخالدة على هذا الشعر الذي فاض بأفكار إنسانية سامية، وعبر عن خوالج نفسية عارمة.
جاء المتنبي إلى عالم كله وحشة واغتراب، وظلم وظلام. فكانت تجربته مع كل هذا تجربة الإنسان المتمرد والرافض.
وبالكلمة دقّ ناقوس الخطر داعياً أمته المغلوبة إلى الرفض والتغيير وإعادة بناء عالمها المنهار كي يعود لإنسانها حريته وكرامته وتوازنه الطبيعي مع الحياة والوجود.
وهكذا التحم المتنبي بالمصير الإنساني. ففكر وتأمل وناضل في زمن عربي انهارت فيه القيم، وانعكست فيه المفاهيم، وانقلبت المعايير، وغدت الفضيلة رذيلة، والرذيلة حسنة.
ولكنه تابع مسيرة الرفض والنضال بالكلمة اللاهبة التي أقلقت عيش الحكام، وبالكلمة الهادئة الحالمة التي اغتبطت لها القلوب محببة.
والمتنبي بعبقريته وإبداعه ملأ الدنيا وشغل الناس. وبرؤياه العميقة البعيدة استشرف آفاقاً مستقبلية لأمة موجوعة فغدا بذلك رمزاً لمن أدرك آلامها وآمالها ساعياً إلى أن تنهض من جديد وتعود لها زهوة ماضيها المجيد.
وعبقرية المتنبي جادت بشعر مبدع خلاق لا يمكن فصله في فكره وقيمته عن الحياة الإنسانية في عصره وفي كل العصور. هذه الحياة التي تنشد قضايا الحق والخير والأمن. وبذلك يكون قد تعانق التاريخ مع الفكرة النبيلة، والخلود مع الفن السامي، والصفاء مع المشاعر النبيلة.
والمتنبي هو الشاعر الكبير الذي استطاع بفكره أن يسمو إلى الشمولية المطلقة النسبية التي تعكس مشكلات عصرية أبداً. وهو الذي استطاع أن يعي بعمق عصره ليلج على قيم إنسانية مقدسة تخلص الأمة من كل ما يشوه إنسانيتها أو يمسخ مثلها.
ولما كان الناس في عصره يرقدون في أحضان الذل والتسلط والشقاء ويؤثر كل منهم السلامة والخلاص الفردي، فقد كان المتنبي في لجة التعب والدم ينشد خلاص المجموع،ة خلاص أمة مقهورة ومحكومة بالهوان.
كان الشاعر يصرخ صرخاته الإنسانية في جموع غافلة مستسلمة.
كان يصرخ من أجل استرداد الحقوق المسلوبة، ومقاومة الغاضب وفي سبيل حياة العزة والكرامة التي غفل عنها شعب مستكين وحكام أذلاء.
كان يصرخ من أجل الثورة والعنف ليدفع الظلم ونبل الأهداف.
وهكذا ترتسم صورة المتنبي المشرقة مثلا للأجيال المتعالية في الفروسية والشجاعة، في التمرد والثورة، في الأدب والفكر، وفي السمو عن الدنايا واللذات الحياتية الوضعية التي تتنافى وحياة العظماء من الرجال.
بهذه الصورة المشرقة يطل الشاعر على عصور التسلط والقهر. وبحضور إنساني رائع يدق أبواب المعذبين. إن أبا الطيب يطل على العصور الإنسانية المظلمة من خلال إنسانها المقموع الذي تجلده سياط السلطة الجائرة، وأوضاع التردي والفساد، وانهيار القيمة والمفهوم والمعيار.
هذا الإنسان الذي يعاني من التعسف والاضطهاد ويستحضر تجربة الشاعر مع مجتمع الظلم والإغتصاب، فيجد فيها ما يخفف عنه في حاضره المقيت، وما يدفعه إلى النضال دون هوادة في سبيل معد مغتصب، وضد غاصب مستبد.
وإن العصور التي يشتد فيها الظلم، وتنهار فيها القيم، ويعم فيها الفساد وتقدم فيها المناصب للوصوليّ الرخيص أو الجاهل المدمر، أو الذليل الخسيس، لهي عصور يغترب فيها المواطن الصادق، والمناضل المثقف، والرجل الحر الشريف.
هذه العصور هي التي تلجّ على أمثال هؤلاء أن يدقوا أبواب المتنبي خاشعين أمام عظمته وخلوده، ليستأنسوا بأبيات البطولة والعظمة وقصائد الرفض والثورة، وشعر الأعماق النفسية الصافية، والفكر الرائع الجذاب.
وما دام هناك مجتمعات فيها تعسف سيكون للمتنبي حضوره العظيم، وتواصله الإنساني الرقيق مع الأجيال الرافضة والحالمة بالتغيير والساعية لتحقيق مجتمع الخير والحب والسلام,
ولهذه الأجيال عبرة في حياة الشاعر بمعاناتها العميقة الغنية. لأن في هذه المعاناة هموم أمة منكوبة، وإنسانية جريحة ضائعة.
ولأن في هذه الأزمة الذاتية أزمة اجتماعية وسياسية وأخلاقية. وإن الشعر الذي جسد هذه المعاناة، ومثل هذه الأزمة هو فيض نفس متألمة، وعصارة تجربة إنسانية غنية في الكلمة والموقف.
لذلك نجد في هذا الشعر الخالد معاني إنسانية خالدة، ومشاعر صادقة نابعة عن نفس اغتربت في موطنها واغتالها الجهلة من أهله ويرحل المتنبي دون أن تحقق أحلامه التي هي أحلام الأمة. وموت جسد الإنسان العظيم لا يعني بالضرورة موت أفكاره وأحلامه. فالآمال والأفكار العظيمة خالدة مادام هناك المؤمن بها والمناضل في سبيلها والساعي إلى تحقيقها.
مات أبو الطيب المتنبي وبقي شعره الحي الخالد بفكره وقيمته العربية والإنسانية التي مجدها طيلة حياته وهي قيم متجددة دوماً.
رحل المتنبي تاركاً وراءه تهمه صارخه للوطن الذي مازال مقصراً في مجال تقدير نابغتيه وعظمائه، الراحلين منهم والأحياء.
ولما كانت “قيمة المرء بما يحس” كما يقول علي بن أبي طالب، فإن أما الطيب قد أحسن، والحسن قيمة. فلنستلهم هذه القيمة التي تواكب التاريخ العربي والإنساني في صيرورته المتحركة.
وفي الأسطر ما قبل الأخيرة، إذا أردنا أن نوجز مسيرة حياة شاعرنا المتعبة فإننا نستطيع ذلك بكلمات قليلة نابضة بالحياة أبداً، ودافعة بأمتنا ومجتمعنا إلى الأفضل والأسمى وبتاريخنا إلى الأمجد والأمثل: ثورة_ نضال _ شهادة.
ثلاثة قيم تختصر زمن الظلم والعذاب، وتشيد صروح الوحدة والتحرر والعزة. ومن كان مولوداً من السيف والرمح، ومنتسباً إلى قيم العلم والأدب فلن تكون حياته إلا كما كانت “ممزوجة بالدم”.
وفي الخاتمة أقول: إن هذه الدراسة محاولة في سبيل إبراز الأدب الحي الخالد عند أبي الطيب المتنبي، الأدب الذي رأيت فيه مواكبة محركة للتاريخ ومجددة للحياة، ورؤى ومنطلقات إنسانية شاملة: وروحاً معاصرة استطاعت أن تجرد مثالها (شخصيته وشخصية سيف الدولة) من إطاره الزماني والمكاني ليغدو رمز البطولة والعظمة التي تحتاجها الأمة والإنسانية في كل عصور قهرها واستلابها.
ولقد اعتمدت في دراسة هذا كله نصوص الشاعر منقباً عن كل ما فيها من أصالة عربية وقيم إنسانية، بعيداً عن نهج الفنون الأدبية أو تتبع مراحل الحياة من ولادتها إلى موقعها. فإن وفقت فالفصل للشاعر نفسه الذي قدم لي الحيز الضيق من كثير في الحيز العربي والإنساني الرحب. وإن أكن قصرت فلأني سعيت وفي السعي النجاح والتقصير، والله ولي التوفيق.
وفصل هذه الدراسة أربعة:
الفصل الأول: شخصية المتنبي_ مكانته_ مثاله_ عروبته.
الفصل الثاني: مرحلة الضياع، والصراع في شعره.
الفصل الثالث: المتنبي والحكام.
الفصل الرابع: المتنبي بين التمزق والاغتراب.
الفصل الأول
شخصية المتنبي:
إن شخصية المتنبي أي أبو الطيب المتنبي تستهوي الأجيال الناهضة للحياة على مر الدهور. تستهويها بملامحها الإنسانية الشفافة، وخصالها الفريدة في الرفض والطموح، في التمرد والشجاعة في أوضح معالمها وأزهى ألوانها.
وهذه الشخصية الفذة أثرت فيها مجموعة عوامل جعلتها تغدو على تتالي الأزمان ملهماً للمبدعين، ووحياً ومنارة للشباب الجاد الرافض، ومثلاً إنسانياً يحتذى في دروب هجر حياة الترف والعبث إلى حياة الجد والكفاح في سبيل فكرة سامية أو هدف نبيل. وهذه العوامل المكونة لشخصية الشاعر هي:
1_ عامل الأسرة:
رزق (الحسين) ولداً واحداً أسماه أحمد ولقبه بأي الطيب, ولعل المرجح أن أمه ماتت وهو طفل فقامت جدته بتربيته مقام الأم وغرست في نفسه الحب والحنان والوفاء”1″.
وفي الغالب نشأ الشاعر في أسرة فقيرة متواضعة لم تحرمه من حياة اللعب والعبث مع لدلته الأطفال في الأحياء. وذكريات هذه الحياة العالقة بذهنه والممزوجة بأحاسيسه استحضرها في شعر صباه.
در در الصباء أيام تجريد (م) ذيولي بدار أتلة عودي”2″
وفي وقت مبكر دفعه أبوه إلى إحدى مدارس الكوفة التي تلقى فيها دروس السعر واللغة والإعراب”3″. ولما قوي ساعده تنقل به الأب بين بادية الشام وحاضرتها إلى أن توفي وقد ترعرع الشاعر وبرع”4″
وهذا التنقل في البادية جعل يصحب الأعراب فيها ويدرك نزعتهم إلى التمرد والثورة. وبحماسة شبابه وبلاغته وفصاحته فاد تمرداً أعرابياً لم يحالفه النجاح، فقبض عليه وأودع السجن وهو في التاسعة عشر من عمره فعرف السجن بجدانه القاتمة وقيوده الثقيلة بسخطها على العصر، واعتزازها بالقيم العربية الرفيعة، وتشدان (المثال) والتطلع إلى حكم عربي قوي.
وفي هذه المرحلة عززت البدوية في نفسه الشجاعة والكبرياء، ورسخت فيها القوة والصراحة.
2_ عامل العصر:
من الحقائق العلمية أن ا؟لإنسان والمجتمع يتشكلان ويتطوران تاريخياً.
وأن الطبيعة الإنسانية نفسها تتغير لكونها نتاج المجتمع الإنساني. فالشخصية هي نتاج التطور الإجتماعي في جوانبه المتعددة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الثقافية. ولقد علل المفكرون نظرتهم المادية إلى طبيعة الإنسان. فأوضحوا أنها نتاج التطور التاريخي للمجتمعات، وأن الإنسان لايخرج جاهزاً من بين يدي الطبيعة. بل إنه يكون خصائصه بشكل نشط من خلال الصيرورة الاجتماعية والعمل الإنساني.
إذا لا نستطيع أن نفصل الإنسان عن مجتمعه ولا أبا الطيب المتنبي عن تأثيرات عصره. فقد كانت هناك أوجه تفاعل بينه وبين هذا العصر. وكان هناك أيضا التأثر والتأثير، والصدام والصراع الذي قد عنف حيناً ولان وهدأ حيناً آخر. ولكن ظل الشاعر محتفظا بمشاعر الثورة على أوضاع مترديه اتسمت بالفساد السياسي، وتمزق الدولة العربية إلى دويلات (الخليفة يعيش حياة القلق والخوف)”1″. والدويلات تتصارع والعدو الخارجي يزحف. وإلى جانب الفساد السياسي عمّ الفساد المالي والإداري والأخلاقي والأمني (فلا عدالة في توزيع الثورات، ولا ثقة بين الحاكم والشعب، ولا قيمة إلا للمال الذي قتل قيم الصدق والمحبة والتعاون بين الناس).
إذاً أن نعيش في مجتمع ونكون مستقلين عن هذا المجتمع أمر غير ممكن. لأن هناك دوماً علاقة متبادلة بين الموضوع والذات، بين العصر والأديب. ونفس المتنبي الطموحة والغنية بالعواطف، اضطرمت بنار الثورة على حياة العصر الفاسدة وأوضاعه المنهارة”2″.
3_ العامل الفكري والثقافي:
ولد الشاعر في واحد من آلاف البيوت التي اكتنفها الفقر وأحاط بها البؤس والشقاء في ظل حكم فئة غنية مترفة تطرفت في الغنى والجاه فتطرف الناس في شقاواتهم وعذاباتهم.
ولكن هذا الواقع المرير لم يحرم المتنبي من أن يرد مناهل العلم والأدب في وقت مبكر وقد بدت عليه مخاتل الذكاء والوصافة والميل للدرس. وقد ذكر ابن الأنباري في كتابه “نزهة الألباء في طبقات الأدباء”:
“ونشأ محباً للعلم والأدب والقراءة”. وفي “الصبح المبني على حيثية المتنبي” للبديعي ورد ” وكان محبا لأهل العلم والأدب”.
ومنذ الصغر يتعلم في مدارس الكوفة وكتاتيبها”3″ القراءة ويقرأ القرآن الكريم، ويستمع إلى علماء كبار في اللغة والأدب والفكر. وكان ممن يفهم وأخذ عنهم: الأخف وابن السراج وابن دريد من أئمة النحو واللغة”4″.
وأثبت المتنبي في سن مبكرة أنه عالم وشاعر. وقد ظهرت موهبة الشعر عنده وهو صغير”5″.
وهكذا أصبح المتنبي “عالماً بالغة وشواردها، ونحوها وصرفها، ومطلعاً على المذاهب الدينية والقصص والتاريخ. وقد حصّل كثيراً من المعارف الشائعة في القرن الرابع الهجري”. ومن الدراسات العديدة في العلوم الأدبية والعلوم المترجمة التي جعلته عميق الاطلاع واسع الثقافة، ونافذ الفكر الذي اتسم بالحكمة والثورة”6″.
4_ عامل الموهبة والذكاء والعبقرية:
أثبت المتنبي في سن مبكرة أنه عالم متفهم، وشاعر متمكن. ولما كان الذكاء مشتقاً من القدرة على التعلم واستخدام المرء ما تعلمه في التكيف والتلاؤم مع الأوضاع الجديدة وحل المشكلات (ومعياره هو السرعة في التعلم والدقة فيه) فإن ذكاء المتنبي بهذا المقياس من السمات لدى دراسيه.
فقد أخذ في وقت مبكر يتميز في الذكاء والرصانة والميل للدرس إلى جانب الذاكرة القوية جدا وتدور في نزهة الألباء/367/”أخبرني وراق كان يجلس إليه الشاعر: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى…”.
والمتنبي أفاد من جميع فرص التعلم. فهو لازم دكاكين الوراقين واستمع طويلا إلى علماء الكوفة كما أسلفت _ وبغداد في فترة مكث فيها.
ومن الثابت أن والد الشاعر قد شجع ابنه على الاغتراف من مناهل الأدب والعلم حتى اشتد ساعده فيها وملأ بيهما الدنيا وشغل الناس، وغدت عبقريته المبدعة في مقدمة عوامل شهرته في الشرق والغرب. هذه العبقرية الفذة هي التي أذكت في النفوس نار النبالة والحماسة والرجولة، وأمتعت الأنظار والأذواق بفن جليل رفيع يسمو في رحاب الفنون النبيلة الرفيعة، ويلتصق بالحياة الإنسانية، ويرتفع بها الأسمى لتحتفظ بعزتها وكرامتها. فالمتنبي عبقري موهوب رفعته عبقريته إلى أبراج الخلود شاعرا كبيرا حمل رسالة فكرية وفنية أدرك قيمتها فاستهدف بها خدمة الحياة الإنسانية المعذبة.
وعبقرية الشاعر هي سر خلوده في الكلمة والموقف، في المفهوم والقيمة. وهي سر صيرورة فكره وشعره الذي تردد صداه في محراب الخلود على مدى الأزمان يبني بالروعة والسحر والجلال.
وعبقرية الشاعر وصيحات العرب والمستشرقين من الغرب. ولو كتب له الترجمة والنقل لأذهلت الغربيين بفنها الخالد الذي لم يبلغ مرتبة إلا القليل والنادر من العباقرة والأفذاذ. وبما في هذا الفن من فكر وقيم تنهض بالإنسان إلى الأفضل.
ويقول الشاعر الألماني “هايني”: “الشاعر أزهى من الإنسان”. فالمتنبي زها بنفسه لسموها وكبريائها ومثلها العليا. وزها بشعرة الذي حمل روحة الوثابة إلى المجد الأسمى. والذي دوى بصرخات إنسانية وصيحات انسانية وصيحات قيادية تهيب بالإنسان المعذب أن يتحدى ويتمرد على كل ظلم يطاله وتعسف يستلبه، ومفاهيم وقيم سلبية تهدد.كيانه واستمراريته.
وزهو المتنبي بذاته وبفقه مبرر إذا عرفنا أن شخصيته هي شخصية الأمة العربية الأصيلة في طموحها وكبريائهاالتي نشدها مثالاً لأنقاذها والخروج بها من الظلام إلى النور. لذلك مهما زها أبو الطيب وكيفما فحقه وحقنا في التواصل الأنساني مع العباقرة والعظماء_ أن نشاركه زهوْْْه، وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وهو الإنسان الذي تطيب للأجيال القيلولة في ظلا له. وهو أيضاً العبقري والشاعر والمفكر الذي تجد في فنه الانسانية في كل عصر من عصورها الجديدة تلو الجديدة.
وبعد! ما أبرز سمات شخصية المتنبي التي بحثنا في طفولتها وتربيتها ونشأتها؟
الشجاعة:
أفكر في معاقرة المنايا وقود الخيل مشرفة الهوادي
زعيم للقنا الخطي عزمي بسفك دم الحواضر والبوادي
الطموح والأعتدال:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه ومن نفسه الزَمن
زعيم للقنا الخطي عزمي بشغفك دم الحواضر والبوادي
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
العلم والحكمة:
أعز مكان في الدنى ظهر سابح وخير جليس في الأنام كتاب
القوة: ولا تحسبن المجد زقا وقتية فما المجد الا السيف والفتك البكر
الكبرياْء:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم
السخط والغضب والنقمة:
أظلمتني الدنيا فلما جئتها مستسقيا مطري عليا مصائبا
الوفاء:
خلقت ألوفاًَ لو رجعت الى الصبا لفارقت نسيبي موجع القلب باكيا
التنزه والرفعة عن اللذات الدنيئة (من لهو ومجون ومعاقرة الخمور).
تركنا لأطراف القنا كل شهوة فليس لنا الا بهن لعاب
النزعة القومية العربية:
إنما الناس بالملوك وما تصلح عرب ملوكها عجم
رفعت به العرب ألعاد وصيرت تصلح عرب ملوكها عجم
هذه هي شخصية المتنبي التي حيرت الكثير من دارسيها، والعديد من الباحثين في آثارها على مر العصور. فمنهم من نجح ومنهم من أخفق ومنهم من لم يزل متهيباً؛ واقفاً أمام صرحه بخشوع يردد قوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
ومنهم من هو…… ومن المعجبين بهذه الشخصية الفذة العظيمة، وبعبقريتها المبدعة الخلاقة، وبشعرها الذي نفذ الى أعماق النفس، وبكلماتها التي ما زال دويها يدق مسامع الأمة العربية وهي في أحلك ظروفها كي تنهض وتستعيد أمجادها وقيمها:
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
وقال:
وما الدهر الا ون رواة قصائدي إذا قلت شعراً أصبح الدهر منسد
فسار به من لا يسير مسمراً وغنى به من لا يغني مغردا
وحقيقة ما زال صوت المتنبي العربي الإنسان يدوي ولكن لا حيات لمن تنادي. فمتى نفيق يا أمة القهر والتجزئة؟ ومتى نتوحد يا وطن الحدود المرسومة؟ ومتى نطعم خبزاً لا عسفاً، ونستقي ماء لا علقما يا شعبا تمزقه لا هواء وتقصف به الأنواء؟ً
مكانة المتنبي
المتنبي في مراة قومه:
مشكلة المتنبي في قومه مشكلة العظيم في وطنه. نشأ الشاعر مع الأعراب في البادية نشأة خالصة العروبة( يحب قومه ويؤثرهم دون تزمت أو تعصب).
ومن البادية اكتسب خصال النفس العربية كما لكرم و الأنفة والإباء الصبر والفروسية والشجاعة؛ والطموح إلى الأمجاد. هذه الشمائل بقي يتغنى بها زمناً مديداً ويصورها في شعر خالد:
دل من يغبط الذليل يعيش رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إلام
ومن صحرائه التي أحب فارسها وقد انطلق مغبراً في السرايا، ارتسمت في مخيلة الشاب الشجاع صورة الإنسان العربي المثلي التي تنتظره الأمة ليعيدلها أمجادها التي تعفرت وقدنال من قد نسيها أعجمي غاضب. لذلك بقي المتنبي طال حياته يشغله هذا المثال الذي تغنى ورسم ملامحه بأروع الصور والأشكال.
وحسب المتنبي فخراً أنه أظهر العروبة في بعدها الإنسان البعيد عن الدين والفردية.
وفي المجال القومي يعد المتنبي ملتزماً بأمته المهمومة المشتتة. يقول الدكتور أحمد أبو حافة3
” نجد أن هذا الإلتزام القومي لم يقتصر على الجوانب السياسية وإنما انتظم شخصية الأمة العربية بكيانها ووجودها وحضارتها وأخلاقها، وتاريخها ماضياً وحاضراًومستقبلاً”.
ويقول فيه:
…” فهو عربي صميم دماً وثقافة وعقيدة، وحضارة وشخصية وشاعرة، و هموهاً وأهداف. وهو يعيش في بيئة عربية قد انهارت فيها سيادة العرب وانهارت معها شخصية الأمة وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها وقيمها فأحس بحظر ذلك، وهاله أن يصير العرب إلى بوار؛ وقد ساد العربيً الواعي المستنير الغيور على أمته وعلى أمجادها شعور بالإغتراب والإستلاب والضياع والضعف في مجتمع ساده حكم الأعاجم والموالي والخدم والعبيد والغلمان ممن عاثو في الأرض فساداً…..”.
والمتنبي الذي اتقد ثورة وطموحاً يصرخ في وجه العرب واعياً إلى الثورة لاستعادة الحق والسلطة التي يتربع على عروشها الأعاجم والعبيد:
وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب ولا عهود لهم ولا ذمم
لكل أرض وطئتها أمم ترعى بعبد كأنها غنم
أليست هذه دعوة صادقة إلى أقطارنا المتفرقة المتناحرة كي تدرك حجم الأخطار المحقة بها والتي تهدد وجودها، فتتآلف وتتحابب وتتضامن قوة عربية واحدة متماسكة لتجابه أخطارها وتحقق طموحاتها حتى لا يكون في المستقبل” أندل ثالثة”.
والأبيات السابقة تبرز نظرة المتنبي القومية البعيدة عن العنصرية كلياً: فالعرب محكومون بأعاجم لم يرفضهم لأنهم(أجانب) أو عناصر غير عربية بل لأنهم حكام الجهل و قلة الأدب و الخيانة الذين زرعوا دنيا العرب_ بهذه السمات_ فساداً وظلماً وانهياراً. و هذا ما أراد أن يؤكده المتنبي لقومه كي يستعيدوا سلطة العروبة و أمجادها.
أف ليست هذه الصفات هي علة تردي أوضاعنا العربية المعاصرة؟. ونحن نجابه تحديات الخطر الصهيوني الذي يتهدد وجودها في ماضينا و حاضرنا ومستقبلنا.وفي رأي ما الثورة التي قام بها المتنبي إلا تعبير صارخ عن شعور قومي عارم عبر عنه بالسلاح الهادف إلى الإستيلاء على السلطة التي بها يمكن أن يستعاد الحق العربي المغتصب؛ والمجد العربي المهان.
لذلك لما فشل حطب آماله في رحاب أمير عربي صميم دماً و عقيدة؛ وشجاع بارع في الفروسية وفق القيادة، وشاعر أديب، ورمز للأنفة والاعتزاز بالعروبة والحرص على قيمها ولغة وثقافة و حضارة.
… وهكذا تلاشت صرخات المتنبي القومية في وادي العدم، ولم تستجيب لا أمة عز عليه أن يغادر دنياه و هي تئن تحت سياط القهر و التشتت اللاهية.
ولما كانت دعوته ما زالت تدق أسماع عرب الكلام و الشجب، فما رأيهم لو استجابوا لها قبل فوات الأوان فحققوا وحدتهم وسيادتهم واستعادواحقوقهم؟
رحل المتنبي كما رحل كثيرون من أمثاله بعده ممن كانوا مؤمنين بأمتهم المفجعة. و سيرحل كثيرون من أمثالهم أيضاً دون أن تتحقق أحلامهم ما دامت هذه الأمة مقطعة الأوصال مجزأة مشتتة الكلمة.
سيرحل أمثال هؤلاء الغرباء عن أوطانهم دون تحقيق الحكم في مجتمع التجزئة والتخلف. وبذلك يكونون قد اغتربوا مرتين:
غربة الحياة في الوطن المكلم، وغربة الموت في وهبته ووحشته…. و إن كان لتطور المجتمعات حتميته فإن معيقات الماضي هي الآن في الحاضر. و التاريخ لا يرحم الشعوب الضعيفة الذليلة التي لا تثور في سبيل حق مغتصب مسلوب.
المتنبي في مرآة الغرب:
درس المتنبي العديد من المستشرقين_ من شرق الأمم وغربها_ الذين ما تعدت دراساتهم حياته و أغراضه. فكانت أشبه بمعظم الدراسات العربية التقليدية لأبي الطيب المتنبي( درسوا شخصيته وحياته وعصره أو أغراضه).
ومن دارسيه” بلاشير” ( 1 ) الذي قدم دراسة تناولت سيرته وتنقلاته ونتاجه الشعري في كل مرحلة من مراحله و إقامته سواء في حلب أو في مص أو في غيريهما من الأمطار. و لكن الذي يستحق الوقوف عنده قوله:
“…..و ستبقى بالنسبة إلينا( نحن الغربيين) القضية الشائكة جداً عن المكانة اللائقة التي يجدر أن يحتلها الشعر الكوني شاعراً من العصر الوسيط لا يزال موضع إعجاب إلى اليوم من مراكش إلى الهند. و نشعر هنا أكثر من أي مكان آخر بأن الفكر الشرقي لا يسعفنا بأي مصدر. فلا يسعنا، بكل تأكيد، اللجوء للحصول على جواب مرضى إلى معجبين بالمتنبي لأسباب قومية أكثر منها أدبية، فهل يستطيع المستشرقون أنفسهم إعطاء الجواب؟
هذا ما ينبغي لنل أن نراه”. وتساءل بلا تسير: ما هي التي تجعل حياة المتنبي وأثره السعي جديرين باهتمام الغربيين مهما؟
و يقول أيضاً:
“والآن ماذا تكون مؤهلات المتنبي التي لم تكن جديدة بإعجابنا نحن الغربيين، فعلى الأقل بتقديرنا؟ وما هي الأجزاء من ديوانه الداعية إلى لفت انتباهنا؟ وليس المقصود لكي نجيب على هذه الأسئلة أن نلتمس تجاوباً عاطفياً غايته تمكيننا من النفاذ بصورة أفضل إلى مفاهيم ومصادر استلهام وطرق تعبيرية غريبة عنا، وبالتالي مثيرة لنزق عقولنا وإحساسنا. وإذا ما قبلنا كشرط لازم استحالة تذوق قصيدة عربية تذوقاً حقيقياً إلا إذا قرئت باللغة التي نظمت بها وجب أن نكتشف في ديوان هذا الشاعر ما يمكن أن يكون له بعض العلاقة مع أفكارنا الغربية”.
” . ” بلاشير”
ومن المستشرقين الذين كتبوا عن المتنبي” كرا نجريه دي لا كرانج” الذي قال عن المتنبي في كتابه” المختارات العربية”:
“….لا يسعنا بعد أن نكون قد درسنا العربية دراسة جدية؛ ثم انتقلنا إلى قراءة أبي الطيب إلا أن نتعرف فيه إلى الصفات التي تشكل الرجل العبقري.
أن هذا الشاعر ذو خيال وقريحة شعرية و حماسة، ويتميز أساساً، بسمات الرجولة والقوة وسمو الفكر. أن أسلوبه موجز متقد متألق بالعبارات الموفقة. إنه ذو روح تنزع بطبيعة الحال إلى التسامي الذي بلغه أحياناً”.
…. وفي سنة1824 ألف ونما نمائه أربع وعشرين نشرت دراسته في” بون” بعنوان” شرح المتنبي الشاعر العربي المشهور”. نشرها: ب . بوهين:
P .bo hlen . وهي مؤلفة من أربعة أقسام:
في القسم الأول تناول المؤلف سيرة الشاعر، وفي القسم الثاني قدم عرضاً لفكر المتنبي الديني. وفي القسم الثالث درس الديوان من الناحية الأدبية؛ وفي الرابع درس أيضاً الأنواع الشعرية عند العرب”.
وفي سنة 1907 ألف وتسعمائة وسبع ظهر كتاب تاريخ أدب العرب” للمستشرق (نيكل وسون)niclson0حديث واسع عن المتنبي يقر بعبقرية فنه ويقرأ أيضاً بالمبدأ القائل: “أن الشرقي المولد هو وحده القادر على تقدير المتنبي حق قدره”.
أما المستشرق الإيطالي: ف. غيري للي f.g a b ri e l i0 فقد قدم ثلاث دراسات مخصصة لأبي الطيب المتنبي تعالج أولى هذه الدراسات وعنوانها “حياة المتنبي” 1″ سيرة الشاعر فقط. وفي الدراسة التالية وعنوانها” دراسة شعر المتنبي” 2″ بحث(غير للي) في شعره، وصلته بالتطور العام للأدب الشعري عند العرب.
وفي بحث أخير عنوانه” شعر المتنبي” 3″ تصدى المستشرق لدراسته قصائد أبي الطيب من الداخل إذا صح التعبيلا” ليس بتأثيرها على القارىء، أو السامع بل في قيمتها الباطنية”.
هذه هي إذاً بعض أحكام الغربيين على أبي الطيب، وهي أحكام متنوعة أصدرها هؤلاءالمستشرقون دون أن يوفقوا في وضع الشاعر في مكانته الحقة في الشعر القومي والإنساني. ولكن إن أخفقوا فقد أخفقنا نحن لأننا حتى هذه اللحظة_ لم نعرف قيمة هذا الشاعر العظيم، ولم تمنحه بعد أمته التقدير المزور ومن منحه، ولم نستخلص من سيرة حيلته ومن شعره ما يعرف به هؤلاء الغربيين بأنه شاعر
في أدبه قيما أفكار تجدد الحيات و الناريخ.
المتنبي و المثال
نشأ المتنبي محبا لأمته، معتزاً بقيمها العربية الفاضلة؛ وبترابها العريق وتاريخها المجيد. نشأ في عصر انهارت فيه القيم، وضعفت سلطة العربي، واستطالت شوكة الأجنبي.
نشأ و هاجسه المثال. أين العربي الفارس المقدام؟ أين العربي الكريم الشجاع؟ أيد أمة من ماضيها؟ أين عروبة من أمجادها؟ بل أين البطل الذي يقود الأمة ويخلصها من واقعها المؤلم المرير؟
تساؤلات تتجسد فيها طموحات الإنسان العربي وكبرياؤه التي هي طموحات الأمة وكبرياؤها. ولما كان المتنبي طموحاً وفي نفسه الأنفة و الكبرياء، وعربياً أصيلاً،
وفي جسمه يسري دم عربي نقي؛ فإنه الشخصية العربية التي_ لو امتلكت (القوة_لخلصت هذه الأمة من أعاجمها ومن فسادها. فالمثال إذاً عند المتنبي ملتحم بذاته. وذاته هي ذات أمته المغلوبة المقهورة.
إن الشاعر يرسم لنا ملامح الشخصية العربية الأصيلة، والقادرة على الرَفض والتغيير إذا ما امتلكت أدواتهما ووسائلهما. يرسمها لنا عالمية، طموحاً، عزيزة النفس، وعبقرية شجاعة.
إن هذه الملامح تكون المثال، تكوَن شخصيته التي أرادها لكل إنسان عربيَ كي ينهض ويغير.
والمتنبي الذي عانى الكثير من القهر والاضطهاد هو في ذاته المبدعة رمز لأمة التمزق والضياع التي حمل همومها وطموحاتها، وأراد لها أن تتمرد و تثور على واقع الذل و المهانة لتبني عالم المجد والعظمة. فذات المتنبي المهمومة هي ذات الأمة المقهورة التي دعاها إلى أن تطيح بغاصبيها بالقوة. فتتحرر من قهرها وتستعيد سيادتها ومجدها. يقول المتنبي:
أفكر في معاقرة المنايا وقود الخيل مشرقة الهوادي
إلى كم ذا التخلف والتواني وكم هذا التمادي في التمادي؟
والشاعر لقي النقد والتجريح والتعريض الكثير في فهم تجربته الفردية التي رأى فيهاالعديد من الكتاب تضخم ألذات ولا أبعد. وفي رأي هذا ظلم وإجحاف. لأن ذاتيته لا يمكن فصلها عن ذاتية الأمة. ولأن حديث المتنبي المتكبر؛ بشكل أو بآخر
عن نفسه يرسم في النهاية نموذجاً مثالياً لرجل الفض والنضال والثورة بل لرجل الأمة المقهورة بل للأمة كلها كي تستعيد بالكفاح وحدتها وحقوقها وتطرد الغاصب الدخيل:
زعيم للقنا الخطي عزمي بسسفك دم الحواضر والبوادي
وفي كل فترة عصيبة مرت بها هذه الأمة كانت تعلو في سمائها صيحات تبحث عن منقذ لها من واقع الظلم و الظلام.
وهل دعوة المتنبي إلى الثورة في الأبيات التالية تخاطب إنسان عصره أم إنسان عصرنا أم إنسان العصور الثالثة التي تخلصها الثورة من شقاواتها؟
إلى أي حين أنت في زي محرم وحتى متى في شقوة وإلى كم؟
إلا تمت تحت السيوف مكرماً تمت وتقاس الذل غير مكرم
فثب واثقاً بالله وثبة ما جد يرى الموت في الهيجا جن النحل في الفم
والمتنبي الذي وعا الثورة قد ثار و فشلت ثورته المسلحة فعاد إلى ثورةالكلمة التي وجدت مثالها في إنسان عظيم عقدت الأمل عليه بأن يخلص أمته من عذاباتها وماسيها. إنه المثال الذي التحم بذات سيف الدولة الفارس الشجاع والعربي الكريم الأصيل. ويلتحم الإبداع الشعريَ مع الإبداع البطولي بانفعالات إنسانية صادقة ليقدم صورة رائعة للبطل المثالي.
الذي شغل وجدانه. ومن الصعب جداً تفريق الذاتين عن بعضهما:
ذات الشاعر وذات القائد. فصورة الثاني في الطموح والقوة هي صورة الأول في الهموم والثورة، هي صورة الأمة الأصيلة في طموحاتها وأمالها وكبريائها وتطلعاتها إلى مجتمع السيادة و العزَة.لقد تاق المتنبي إلى المثال فوجد في سيف الدولة الذي أكبر في شحصيته فضائل تعكس فضائله و قيما تعكس قيمه(1). لذلك قدم الشاعر الكلمة فقدم مثاله” العمل البطولي الذي ترنح به الشاعر. أبعد هذا يقال: تضخم ألذات”؟ وهي ألذات التي حملت هموم الأمة وتطلعاتها إلى الحياةالأفضل.
وهي ألذات المتصارعة مع المجتمع والتي عكست في شعرها مشاكله الإنسانية والإجتماعية َوالأخلاقية. يقول إليا الحاوي في المتنبي: (2)
” إن الأمة الإجتماعية لم تنعكس انعكاساً تاماً إلا في شعر أبي نواس وبن الرومي والمتنبي الذين عبروا عن ثورة الفرد على المجموع وتصدوا للقيم والمفاهيم الأخلاقية السائدة؛ متنازعين معها، مظهرين بطلانها” فالمتنبي في مثاله يكون قد أعطى بها إنسانياً لأزمته الفردية. ويقول الحاوي أيضاً:”إن نزاع المرء مع مجتمعه يتطور ويمتد فيغدو رمزاً لتنازعه مع الوجود والقدر والمصير”.(3)
فالأمة السياسية والاجتماعية والأخلاقية قد انعكست في شعر المتنبي الذي عبر عن ثورة الفرد على المجموع وتصدى للقيم والمفاهيم السائدة وتنازع مع ظروفها وحكامها.
إذاً في أعماق أزمة المتنبي قضية اجتماعية”. إذا أن همومه سمت وكبرت حتى حملت الهموم الاجتماعية، وآمال الأمة وإن معظم آثار أبي الطيب المتنبي الأدبية التي تناولت الحديث عن المجتمع هي محاولة لرفضه وإصلاحه وتخطيه والنهوض به من واقعه إلى”مثال” يتوق إليه الأدب. لذلك نجد المتنبي قد حلم بالمثال الرجل القائد المنقذ الذي يخلص المجتمع من آفاته وشروره، وبالمثال”
وهو الشكل الأمثل للمجتمع الجديد الذي يعمه الخير والسلام و العدالة.
ويكمل المتنبي مثاله” بالأمة التي يدعوها إلى السير وراء قائدها كي تتحرر وتحيا في عزة وكرامة:
إذا العرب العرباء زارت نفوسها فأنت فتاها والملك الحلاحل
أطاعتك في أرواحها وتصرفت بأمرك والتفت عليك القبائل
وهكذا أثم الشاعر اللوحة بقائد جدير بالقيادة و بأمة لا ينتصر إلا بها مهما علا شأنه وعظمت إرادته و قوي عزمه:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها و تصغر في عين العظيم العظائم
يكلف سيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
ويطلب عند الناس ما عند نفسه وذلك ما لا تدعيه الضراغم
المتنبي و العروبة ( 1 )
المتنبي و نشأته العربية:
من الثابت تاريخاً أن أكثر التجوال في بادية العرب التي تركت آثارها العربية المحضة في نفس نشأت تواقة إلى المثل الرفيعة والشيم النبيلة، والشمائل البدوية السامية. فشهر المتنبي بعفته:
تركنا لأطراف القنا كل شهوة فليس لنا إلا بهن لعاب
وبصدقة ووفائه لصحبه:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موج القلب باكيا
وبشجاعة وكبريائه وعلو همته:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمرعظيم
ولعل البيتين التاليين يلخصان أبرز هذه الخصال و يصورانها أروع تصوير:
ذل من يغبط الذليل بعيش رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إلام
هذه الصورة المثلى للنفس العربية بقيت طيلة حياة المتنبي” مثاله” الذي نشده وتغنى به وجهد لإبرازه بأنقى الملامح وأصفاها، وذلك كله في سبيل إنقاذ العروبة ممن تغنوا في تشويهها وتشتيت أمصارها والعبث بمقداراتها وقيمها.
فالمتنبي الشاعر العربي النسب والنشأة هاله مشهد العروبة النازفة، بمدية التركي والفارسي والكردي الذين تحكموا بأحرارها وهم الخدم و العبيد ذو النفوس الخسيسة الذليلة:
و إنما الناس بالملوك روما تفلح عرب ملوكها عجم ( 2)
لا أدب عندهم ولا حسب ولا عهود لهم ولا ذمم
في كل أرض وطنها أمم نرعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه وكما يبرى بظفره القلم
المتنبي وعصره:
لعل إبراز بعض ملامح الحياة العامة في عصر أبي الطيب المتنبي يلقي الضوء على نزعته القومية والدعوة الصارخة إلى قومه للثورة على الأعاجم واستعادة الحكم العربي بمجده وعظمته.
فعلى المستوى السياسي تمزقت الدولة إلى دويلات، واستبدَ كبار الرجال من الفرس والأتراك بشؤون الحكم حتى غدا معظم الخلفاء ألعوبة في أيديهم، وحتى غدت البلاطات مسرحا للسائس بين خليفة ووزير وبين وخادم.
وأما على المستوى الإجتماعي فقد انهارت القيم وأحطت الأخلاق. وافتقد الأمن وعم الفقر. وأصبحت الأمة مهددة بانهيار كامل لقيمها وأصالتها وعاداتها وأخلاقها. فأحس الشاعر بجسامة الموقف وخطورة الحال؛ وتعمق هذا الإحساس المغموس بالنزعة القومية العربية المتأصلة، واشتد في دعوته إلى الثورة للتخلص من نير الحكام الأجانب وإلى إحياء المجد العربي الصَافي.
المتنبي والرسالة القومية:
من البدء يحدد أبو الطيب المتنبي جوهر المشكلة وهي أن الأمم لا تفوز في حياتها
ولا تحقيق ما تصبوا إليه من آمال عريضة وأهداف كبيرة إلا إذا تحقيق لها شروط القيادة التاريخية الحكيمة المخلصة والعربية نسباً وولاء:
إنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم
وهذا ينم على نزعة قومية صادقة إذا أنها حقيقة صارخة للإنسانية أجمع” وما تفلح أمة تسلم أمورها لأجنبي غاضب دخيل”… وهنا دعوة صريحة إلى ضرورة التخلص من التسلط الأجنبي بموقف عربي واحد وكلمة واحدة.
ورأى أبو الطيب المتنبي أن هذا الوضع الشاذ لا ينفيه غير ثورة عربية محضة، يشترك فيها جميع أبناء العروبة للإطاحة برموز هذا الوضع المتردي من أتراك وزنوج وفرس:
إلى أي حين أنت في زي محرم وحتى متى في شقوة وإلى كم
وإلا نمت تحت السيوف مكرماً تمت وتقاس الذل غير مكرم
فثب واثقا بالله وثبة ماجد يرى الموت في الهجا جنى النحل في الفم
وهكذا تمثل المتنبي عروبة في ما ضيهاضرها ومستقبلها؛ في ماضيها بكل ما فيه من مآثر وأمجاد ومكرمات، وفي حاضرها بكل ما فيه من سواد ومقت وانهيار،وفي مستقبلها الذي رسم معالمه وتطلع إليه وحلم به، وطمح إلى تحقيقه ودعا إلى الثورة من أجله. فهل بعد هذا يمكن الفصل بين هذا العربي المخلص وبين عروبته في آمالها وطموحاتها ومعاناتها؟ لقد كان رمزاً لها في ظرفها الصعب. هي تنظر إلى منقذها وهو يجهد في الصراخ القومي وفي الإنابة بأبناء أمته من أجل النضال والثورة على أعدائها لإنقاذها وإعادة الصفاء والنقاوة لها. هي ترقب عدها المنتظر وهو يثور من أجلها فيحبط ولكن لا يقنط. ويروح في قلب الظلام يفتش عمن يعقد عليه الآمال في تنفيذ هذه المهمة المقدسة. ويلتقي عربياً خالص العروبة، فارساً شجاعاً، شهماً أنفاً كريماً. إنه أمير حلب سيف الدولة الحمداني الذي يقول له منذ البدء: أيها الأمير الشجاع لا تغفل عن روم في الداخل يتربصون بك ويتآمرون وانت تقاتل روم الحدود:
كلما رجعت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل
ليس إلاك يا عليَ همام سيف دون عرضه مسلول
وسوى الروم ظهرك روم فعلى أيَ جانبيك تميل
لقد عظم أبو الطيب المتنبي شمائل سيف الدولة وعقد عليه أملاً في تخليص العروبة من براثن أدائها، وقال فيه غُرُ القصائد التي أبرزت بطولة وعظمت الأمير المنقذ. يقول معتزاً بالعروبة وبغناها:
ما زلت تضربهم دراكاً في الذرى ضرباً كأن السيف فيه اثنان
خص الجماجم والجوه كأنما جاءت إليك جثومهم بأمان
رفعت بك العرب العماد وصيرت قمم الملوك مواقد النيران
فإذا رأيتك حار دونك ناظري وإذا مدحتك حار فيك لساني
هذا جزء من الشعر الرائع الجميل الذي قاله المتنبي في بلاط سيف الدولة يتغنى بالعروبة وأمجادها الخالدة. وبقي هذا الصوت القومي الصارخ يدق مسامع العرب في لهجة نابضة بالثورة من أجل الانعتاق والتحرير. ولتسمع صرخته القومية العنيفة بعد المعاناة في مصر عند كافور:
سادات كل أناس من نفوسهم وسادة المسلمين الأعبد القزم
وتسوء أحوال الأمة وتسوء أحوال الشاعر ولكنه بقي حتى الرمق الأخير يقول الشعر القومي الجميل في عروبة التي شغلت ذهنه وأهاجت أشجانه، وما أغنى عنها منظر ساحر فتان، لطالما تحيا ظروف القهر والإنهيار. يقول في شعب بوان: زهو موضع عند شيراز كثير الشجر والمياه، يعد من جنان الدنيا. قال أبو بكر الخوارزمي: منتزهات الدنيا أربعة مواضع: غوطة دمشق، ونهر الأبلة وشعب بوان وصفد سمرقند):
مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربيَ فيها غريب الوجه واليد واللسان
وهكذا أحس المتنبي العربي بغربة موحشة قاتلة في أرض العجم، وأحس ببعده عن وطنه وقومه ففاض شوقه وحنينه إلى دمشق وأهلها العرب:
ولو كانت دمشق ثنى عناني لبعيد ألترد صيني الجفاني
تحل به على قلب شجاع وترحل منه عن قلب جبان
منازل لم يزل منها خيال يشيعني إلى النوح بنزخان
ومن الشعب أمواج من حمام إذا غنى وناح إلى البيان
ويرحل أبو الطيب المتنبي رحلته الأبدية بعد أن كابد الكثير في دروب مهمته القومية الصعبة. رحل ولم تستجب له أمته التي تئن تحت سياط القهر والتسلط والتشتت. رحل ولكن دون أن يرحل معه فكره القومي ودعواته القومية الخالصة الصادقة. بل بقي كل هذا يهيب بنا أبداً إلى توحيد كلمتنا وموقفنا في سبيل دحر أعدائنا وتحقيق وحدتنا.
الفصل الثاني
مرحلة الضياع في شعر المتنبي:
مدح المتنبي أبا الفضل الكوفي وتأثر بنزعة القروطية. ولما ظهرت بين الأعراب حركة للقرامطة انضم المتنبي إليها آملاً أن يحقق أحلامه السياسية في بلا عربية أصبح زمام الحكم فيها بيد الأعاجم. ولم تعد سلطة لأمة ملوكها عجم. فيقول صارخاً صرخة غضبٍ:
وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم
أخفقت ثورته، وقضى عليها لؤلؤة والي حمص من قبل الإخشيديين وأسر وأمضى في السجن سنتين ثم أطلق سراحه. وتبد أمر حلة الضياع الأمة مسرح للفتن والثورات والدعوات من شتى المذاهب. فالوجود العربي من حوله في حركة واضطراب يماثله اضطراب نفسه.
فالسلطة السياسية في هذه المرحلة تعاني من الفساد الإرادي والمالي والأخلاقي، واهيار في كل مكان تقابله حركة أدبية وفكرية مزدهرة، وظهور خير المؤلفات
وأفضل الشعراء والأدباء، والمتنبي ربيب هذه المرحلة الزاهية فكرياً وثقافياً وعلمياً. وأما حكام الأمة في هذه الحقبة فقد كانوا يتنافسون على استحضار خير الأدباء والعلماء والفلاسفة إلى قصورهم الشامخة وبلاطاتهم الفسيحة.
خرج المتنبي من السجن يفذ الخطا ولا يعرف إلى أي حاكم أو بلاط تقوده قدماه؟ خرج الشاعر الفذ وسلاحه في ليالي الألم والجوع والمعاناة. شعره، وفي الحيرة والضياع، قلبه الخافق بالأمل.
لقد سار حاقداً على الناس والزمن، وضائعاً في صحارى مترامية الأطراف يعج فيها التافهون.
ثار المتنبي على زمن لا يعرف ما يخبى له من أقدار. وعلى أناس عابثين في نظام سياسي واجتماعي منهار. فراح تحت جنح الليل ينتقل من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. ومن بلا إلى بلاط. من بلاط محمد بن زريق أمير طرسوس (1) إلى بلاط علي بن منصور” الحاجب(2)
محمد بن زريق ماترى أحداً إذا فقدناك يعطي قبل أن يعدا
وقد قصدتك والترحال مغترب والدار شاسعة والزاد قد نفدا
فخل كفك تهمي واثن وابلها إذا اكتفيت وإلا أعرف البلدا
…قال يمدح” علي بن منصور الحاجب: الديوان: (105)
المتنبي والصَراع:
بلغ المتنبي ذروة الفن مبدعاً خلاقاً لكل ما هو جميل في الفكرة واللفظ والصورةوالإيقاع الموسيقي. بكل هذا وصل إلى مرتبة شمخت فوق الجميع فهو أشبه بصائغ يختار من الدرر التي بين يديه الأصلي والأجمل ليصلهاباختها، فإذا بعقد فنيَ رائع يتألق ويتلألأ. يقول المتنبي(1):
وقد بليت الخطوب مراً وحلواً وثكلت الأيام حزناً وسهلا
وقتلت الزمان علماً فما يغرب قولاً ولا يجدد فعلاً
ولعمري لقد شغلت المنايا بت لأعادي فكيف يطلبن شغلا
إذا اهتز للندى كان بحراً وإذا اهتز للروى كان نصلا
وهو الضارب الكثيبة والطعنة تغلو والضرب أغلى وأعلى هذا الشاعر المبدع عاش في حياته صراعاً وفي شعره صراعاً، وعلى الأرض العربية شهدت عيناه صراعاً… نما هو هذا الصراع وإلام آل؟ إنه صراع الذات مع قدرها، والأمل مع قهرها، والعروبة مع أعدائها، واللفظة مع ضدها، والفكرة مع نقيضها.
ففي عصره اشتد الصراع ما بين العالم العارف المقهور، وبين الغبي الجاهل المرموق. وبين قيم الحق والخير والفضيلة التي غيبوها في كهوف مظلمة من الزيف والتفاق، وبين قيم التزلف والشر والرزيلة التي غدت خلقاً وسلوكاً حميدين وانعكس هذا في شعره الذي نرى فيه صراع الأضداد، فالمتنبي يأتي بفكرة ثم يتضادها بفكره ثانية، فينشأ صراع جميل يفضي إلى فكرة جديدة أحلى وأجمل. يقول المتنبي(2):
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
ضممت جناحيك على القلب ضمة تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب وصار إلى اللبات والنصر قادم
حقرت الروي فات حتى طرحتها وحتى كأن السيف للسيف شاتم
الأبيات تصطرع فيها الأفكار. فنحن أمام قائد يرقد في جفن الموت وعيناه تراقبان وتحرسان، وأمام رجال يحصدهم الموت المتيقظ لهم والغافل عنه. فهؤلاء الرجال الذين خلفتهم المعركة مكلحومين يقابلهم القائد البطل.
سيف الدولة بمحياة مشرق وابتسامة ترف على ثغره وهو لا يكترث بمن فر أو جرح أو سقط قتيلاً. ويتبع المتنبي ومطابقته الواقعية على التضاد في الواقع الحي
فيقول:
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم
وكان مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم
الشاعر يصور صخب البناء وسط أمواج الموت التي تبتلع في جوفها المقاتلين وهكذا الهدير الهائج الصاخب تعقبه سكون مخيف أتى على كل حياة. فإذا القلعة قد عادت إلى صوابها وغدت الجثث أشبه بتمائم شفتها من الجنون.
ومن أمثلة قصائد الصراع في شعره قصيدته في مدح كافور(1):
حببتك قلبي قبل حبك من نأى فقد كان غداراً فكن أنت وافيا
وأعلم أن البين يشكيك بعده فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع العين غدر بربها إذاً كن إثر الغادرين جواريا
أقل اشتياقاً أيها القلب ربما رأيتك تصغي الود من ليس صافيا
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبالفارقت شيبي موجع القلب باكيا
هنا نرى صراع الحب مع الكبرياء، ويغدي هذا الصراع أن محبة سيف الدولة
لم تكن لذاته بقدر ما هي للغاية النبيلة المشتركة بينهما.لذلك يغدو هذا الصراع صراعاً بين حياة تبسم فيها الآمال وموت يحتمه اليأس. ويستمر هذا التضاد في صورة العبرات المنهمرة الغادرة بكبرياء صاحبها، وذلك بسبب من صار غادراً وقد كان بالأمس الدواء الناجع للنفس من اليأس والموت.
ويشتد الصراع ويحتدم التضاد إلى أن يصل إلى فكرة جديدة لا علاقة لها بالفكرة الأولى التي اصطرعت مع الفكرة الثانية. وهنا يبرز التعميم. يقول:
تخيلتها لما تمنيت أن ترى صديقاً فأعيا أو عدواً داجيا
وماذا في قصيدة “عيد بأية حال عدت”؟ من صراع وتضاد؟ (2) يقول:
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجواد
صار الخصي إمام الآبقين بها فالحر مستعبد، والعبد معبود
إن فكرة جود الرجال من الأيدي تصطرع مع جود الرجال من اللسان”. ولكن ماذا أراد المتنبي أن يقول؟ أراد أن ينتزع كافور من دنيا الرجال الحقيقيين.
وإن فكرة “الحر مستعبد” تقابلها فكرة”العبد معبود”. وهذا التضاد يطرح فكرة اختلال القيم في ظل مثل هؤلاء الحكام أمثال كافور”.
في قصيدة” صحب الناس قبلنا ذا الزمانا”(1) يقول:
تولوا بغصة كلهم منه وإن سر بعضهم أحيانا
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القنا سيان
ومراد النفوس أصغر من أن تتعادى فيه وأن نتغانى
ماذا ولو صراع الفكرتين في البيت الأول؟ ولد الشقاء الذي تنتهي إليه حياة الإنسان دوماً.
وأما البيت الثاني والثالث فإن المتنبي الذي يقابل بين تهافت البشر على التنازع وتفاهة ما يتنازعون فيه، يظهر جهالة الإنسان وحمقه في هذا الوجود واستمر المتنبي_ خارج إطار الشعر_ في صراع كانت له بداياته، ورسمت له نهاياته المؤلمة. وكان لهذا الصراع أثر كبير في حياته التي قضي عليهاجاهل فأراده في الصحراء قتيلاً. وبذلك يسدل الستار على حياة غنية بالأحداث، ونفس صارع أملها
يأسها، وآلمها أن ترى طيلة حياتها الناس الحكماء العلماء الأذكياء، أصحاب المثل والقيم النبيلة مذللين مهانين، والناس الأدباء الأغبياء وقد توفرت لهم المناصب والثروات ففرقوا في الرفاه والنعم.
وبقي السؤال المؤلم الذي تساءله مرات ومرات يتيماً وحيداً بعد رحيله: لماذا هذا القهر في الحياة الإنسانية؟ لماذا لا يعيش فيها من يستحقها ليقدم خيره وعلمه لجميع؟ ولا جواب. ويغيب المتنبي الذي ظل في صراع وذهول حتى الرمق الأخير تاركاً وراءه تجربة إنسانية غنية فيها تياران عنيفان يمثلان صراعاً بين دافعين نفسيين: الأول دفعه إلى التعلق بالحياة وآمالها وحلاوتها، والثاني قاده إلىالابتعاد عنها وعن سرورها وجهلائها ومزيفيها.
الفصل الثالث
المتنبي والحكام:
أبو الطيب وبدر بن عمار:
بدر بن عمار أمير عربيَ.، كان له دور في حياة المتنبي. وكان يتولى قيادة الجيش في طبريا ولزمه المتنبي نحو سنتين ووجد فيه غايته المنشودة من كرم ومجد وبطولة.
وكان الأمير محباً للولائم ومجالس الشراب، وكان المتنبي يقول الشعر عندما تدار الأقداح وتعبت الشمول بالألباب.
ولكن المتنبي ليتمتع طويلاً0بهذه الخطوة بسبب عيد الحاسدين. ” وكان أحدهم قد عاهد نفسه على القضاء على هذا الشاعر العبقري كما كان لشاهده من سرعة خاطر في ارتجال الأبيات التي كانت تفوز بإعجاب الأمير”(2) أما بقية الحساد فقد أثاروا خلافاً بين الشاعر والأمير أدى إلى ابتعاد المتنبي بعد أن قال:
أرى المتشاعرين غروا بذمي وممن ذا يحمد الداء العضالا
من يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
وللمتنبي مدائح في الأمير جديرة بالعناية والإهتمام(2). أبرزها تلك التي قالها في بدر الذي ظهر له أسد فخرج إله فقتله:
في الخد أن عزم الخليط رحيلا مطر تزيد به الخدود محولا
رقت مضاربه فهن كأنما يبدين من عشق الرقاب نحولا
أمغر الليث الهزير بسوطه لمن ادخرت الصارم المصقولا
ورد إذا ورد البحيرة شارباً ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضب بدم الفوارس لابس في غيلة من لبدتيه غيلا
ما قوبلت عيناه إلا ظننا تحت الدجى نار الغريق حلولا
خذلته قوته وقد كافحته فاستنصر التسليم والتجديلا
قبضت منيته يديه وعنقه فكأنما صادفته مغلولا
ماكل من طلب المعالي نافذا فيها ولا كل الرجال فحولا
المتنبي وأبو العشائر الحمداني( نسيب سيف الدولة)(1)
كان أبو العشائر والياً أنط كلية التي كانت مسرحاً لحوادث استطاع الأمير الشجاع أن يخمد نارها ويحقق انتصارات باهرة لاقت صدىً حسناً في نفس الشاعر الذي مدحه بعدة قصائد، فأحس الأمير مثواه، وأخذه صديقاً. وهكذا غدا نسب الأمير العربي وشجاعته، وكرمه، مادة لنظم العروض عند المتنبي الذي يقول مادحاً الأمير في قصيدة مطلعها:(2)
أتراها لكثرة العشاق تحسب الدمع خلق في المآقي؟
والمتنبي يسبغ على ممدوحه الأمير صفات البطولة والكرم والمجد، والبلاغة والذكاء والعلم. وهي صفات في الغالب تصور المثل الأعلى للرجل الكامل في نظر الشاعر:
ضارب الهام في الغبار وما ير هب أن يشرب الذي هو ساق
ثاقب الرأي ثابت الحلم لا يقدر أمر له على إقلاق
كرم خشن الجوانب منهم فهو كالماء في الشفاه الرقاق
ومعال إذا ادعاها سواهم لزمته جناية االسراق
شاعرالمجد خدنه شاعر اللفظ كلانا رب المعاني الرقاق
وكان أبو العشائر قد غضب على أبي الطيب فأرسل غلماناً له ليوقعوا به فلحقوه بظاهر حلب ليلاً فرماه أحدهم بسهم وقال: خذه وأنا غلام أبي العشائر. فقال أبو الطيب:
ومنتسب عندي إلى من أحبه وللنبل حولي من يديه خفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة حننت ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدً فأفعاله الائي سررن ألوف
ونفسي له نفسي الفداء لنفسه ولكن بعض المالكين عنيف
فإن كان يبغي مثلها يك قاتلاً بكفيه فالقتل الشريف شريف
أبو الطيب وسيف الدولة:
هذه الحقبة التي أمضاها المتنبي في بلاط سيف الدولة”هي من أطيب الحقب وأخصبها في حياته. فقد نال منه خطوة لم ينلها شاعر غيره.
كأن سيف الدولة قد جمع في بلاطه عدداً كبيراً من الأدباء والشعراء(1).فقرب المتنبي منه وعرف قيمته فجعله شاعره الخاص وأغدق عليه الجوائز والصلات. واشترط عليه أبو الطيب أن لا ينشده واقفاً، وأن لا يقبل الأرض بين يديه أنفة منه واستكباراً ودفعة سيف الدولة إلى المروض فعلموه الفروسية واستعمال السلاح، واستصحابه في الحروب والغزوات،فكان يصف المعارك التي يشاهدها ويمدح بسالة سيف الدولة وحسن تدبيره.
وضحك الدهر للمتنبي، وفاضت عليه النعمة، فحسده الشعراء وغيظوا منه، فأخذوا يكيدون له عند سيف الدولة حتى أوغروا صدره، وكان المتنبي يقابلهم بالعنف والاحتقار تارة، ويعاتب سيف الدولة، ويستعطفنه ويستجده عليهم تارة أخرى”.
وضاق الأمر بالمتنبي أخيراً، فترك حلب وقصد دمشق، وفي القلب غصة.وفي العين دمعة. كيف لا؟ وهو الذي لاءمت نفسيته نفسية الأمير، ووجد فيه المثال الذي ارتسم في مخيلته في زمن عربي رديء فبه تئن العروبة تحت أغلال العتمة القاتلة.وللمتنبي في مدح هذا القائد العربي الذي يرد غارات الروم عن ثغور الوطن، قصائد غراء اتسمت بصدق العاطفة، وروعة الفن والخلق والإبداع. وكل ذلك يعود إلى حبه الصادق لسيف الدولة، وإعجابه به. فقد كان يراه المثل الأعلى للرجل الذي يريد المتنبي أن يحققه في نفسه. ولكن الخط لم يواته فواتى الممدوح.
والشاعر البطل حدين الأمير البطل يبقى على حب سيف الدولة وفياً وهو البعيد القريب. قال يمدحه وقد عاد منتصراً إلى إنطاكية(2)
تحاربه الأعداء وهي عبيده وتدحر الأموال وهي غنائمه
ويستكبرون الدهر والدهر دونه ويستعظمون الموت والموت خادمه
وإن الذي سما علياً لمنصف وإن الذي سماه سيفاً لظالمه
وما كل سيف يقطع الهام حده وتقطع كربات الزمان مكارمه
أبو الطيب وكافور:
” وضاق الأمر بالمتنبي أخيراً ولاسيما بعد أن حاول غلمانُ أبي العشائر الحمدانيَ اغتياله لتعريضه ببعض أبناء عمه، وحين كله ابن خالويه النحوي في مجلس سيف الدولة بمفتاح في يده، فأسال دمه ولم ينتصر له سيف الدولة فترك حلب وقصد دمشق وبها والٍ يهودي من قبل كافة، فطلب منه أن بمدحه فرفض المتنبي استكباراً وحاول الوالي أن يكيد له عند كافور فأرسل إلى هذا أن الشاعر قال: ” أقصد العبد، وإن دخلت مصر في قصدي إلا ابن سيده”.ووصل المتنبي أخيراً إلى الغسطاط مقر كافور، ولم يكن في حقيقة الأمر يحترم العبد لكنه جاءه طامعاً في أن يعطيه ولاية، ومن ثم يقوي نفسه ويحقق ما نطمح إليه، وقد صرح له بهذا المطمح من أول لقاء فقال في قصيدته البائية:(1)
وغير كثير أن يزورك راجل فيرجع ملكاً للعراقين
وعرف كافور منه ذلك فأخذ يماطله ويحظى بمدحه دون طائل، ولم يخلص له المتنبي منذ أول يوم فكان ينال منه في شعره بغمزات ظاهرها التقدير وباطنها الهزأ والتحقير، ولم تكن مثل هذه الغمزات مما يخفى على كافور، فأخذ ينتقم من المتنبي انتقاماً بطيئاً قاتلا، فأقل صلاته، وألزمه أن يبقى في بطانته، ومنعه من الرحيل، وألزم به في الخفية قوماً يحرسونه.
ولكن المتنبي استطاع أخيراً أن يفلت من قفصه وينجو من كافور بعد أن نظم في هجائه قصيده عصماء(2) وكل إلى أحد أصدقائه أن يزيعها في مصر بعد هربه. وأرسل كافور في طلبه بعض جنده فلم يدركون”.
سيف الدولة الرمز وقيم المتنبي:
لقد رأى أبو الطيب المتنبي في سيف الدولة رمز دولة العرب المفقودة. فقد كان هذا الأمير خالص العروبة من تغلب” والسيف المسلول في وجه دولة الروم. وخاض هذا الأمير الكبير من الحروب مع هذا العدو الغازي؛ وحقق انتصارات رائعة التي عدت أهم الموضوعات التي شغلت قصائده. فقد غدت ملاحم رائعة فيها الفرح والإبتهاج بالنصر، والافتخار والإعتزاز بالعرب والعروبة.
وعاش المتنبي” مع سيف الدولة تسع سنوات_كأنه في حلم تخطى بمنزلة عالية معه فغدا الشاعر البطل صديقاًَ الأمير البطل” فقد استصحبه معه في المعارك، فكان المتنبي يصف ما يراه، ويحقق نزعته إلى البطولة ويختبر شجاعته وقوته في خوضه الحرب إلى جانب سيف الدولة.
والتاريخ يؤكد حب المتنبي الصادق لسيف الدولة، وإعجابه به، فقد كان يراه المثل الأعلى للرجل الذي يريد المتنبي أن يحققه في نفسه ولكن الحظ لم يؤته”.
وهذا المثل الأعلى تجسدت فيه صفات البطولة والشجاعة والحزم والبلاغة، والذكاء والعلم والصبر والمجد. وهذه الصفات تنضح بقيم سامية نبيلة تغنى المتنبي بها منذ صباه حتى رحيله. قيم ما زالت تنبض بالحياة وعلى الأخص في ظروف الظلم التي تستحيل فيها صوتاً إنسانياً صارخاً يدعو إلى هدم صروح هذا الظلم، ودق أعناق الحكام الذين هم”لحم وضم”(1)
ومن أبرز هذه القيم التي رأى فيها ثورة على الحكام المارقين وأنظمتهم السياسية والإجتماعية.
قيم البطولة والعظمة الإنسانية:
يقول أرنست فيشر في كتابه” الاشتراكية والفن”” وبقدر ما صور هوميروس وأسخيلوس وسوفوكليس الظروف البسيطة لمجتمع قائم على العبودية كانوا مقيدين بعصرهم وفات أوانهم. ولكن بقدر ما اكتشفوا في ذلك المجتمع عظمه الإنسان وسجلوا في شكل فني صراعه وأشواقه، وألمحوا إلى إمكانيات غير المحدودة، فإن كتاباتهم تبقى حية بل ومعاصرة”.
إن مجتمعنا في قمة هرمه حاكم ضعيف سيؤول بالضرورة إلى فساد في السياسة، واضطراب في، الإقتصاد، واختلال في المعايير الاجتماعية الخلقية.وإن مجتمعاً تنتفي منهاالعدالة الاجتماعية الإنسانية سينقسم فيه الناس إلى طبقة متفرقة تتكدس في قصورها الثروات الطائلة، وإلى طبقة فقيرة تقاسي أشد ألوان البؤس والشقاء الإنساني.
… وإن مجتمعنا تغيب فيه القوانين، وتسود العلاقات المرضية، ستعبث به الفوضى، وتنتهك فيه الحرمان، ويشتد على الناس الظلم، ويعسر العيش، بل يكاد يستحيل على الشرفاء المؤمنين بمبادىء الحق والعدالة والكرامة.
… وإن مجتمعنا تفتح الرشوة فيه باب الوظيفة، ويعد والناس مسعورين وراء المال لهو مجتمع الخداع والحيلة والكيد والكراهية.
..ز وإن مجتمعًا يمسك بزمام الوصولي التافه، ويعلو مراتبه الأمي الجاهل، ويتقلد منا صب المسؤولية فيه العبد الذليل، لهو مجتمع لا يرضى مسؤوله بالإنسان الحر الذي يسمو بعلمه الباني وكفاءته المشيدة.وإن مجتمعاً تناقضت فيه القيم، وتصارع في رحابه الخير والشر، والسلب والإيجاب، والأناوالآخرون، لهو مجتمع يشكل البيئة الطبيعية، والمناخ الصحيح لتفتح إنسانية استثنائية عظيمة في طموحها وكبريائها، وقوية في عزيمتها وإرادتها، إنسانية تلعب دوراً هاماً في حياة مجتمعها الذي تريد له التغيير نحو الأفضل، تلعب دوراً بطولياً من خلا الرفض والتحدي لكل ألوان القهر والاستلاب، وضد قوى التراجع والتخلف، وفي سبيل مجتمع الخير والحق والعدالة,
…وإن مجتمعًا يتناقض معه كل إنسان واع حر لهو مجتمع الصراع بين هذا الإنسان وأمثاله وبينه. وهنا تبدو عظمة المرء في زحمة التحديات وهو يرفض ويكافح، يتمرد ويثور. لا يثنيه عن كفاحه سجن قاهر ولا سوط لأهب. يقاتل بالسيف حيناً، وبالكلمة الملتزمة حينا آخر، ويلتحم مع سواعد الرفض من أجل المجتمع الجديد الذي لا اغتراب فيه ولا استعباد.
…وأن المجتمعات التي يشتد فيها القهر الإنساني تتطلع الإنسانية فيها إلى الإنسان العظيم الذي يعيد إليها توازنها في قيمها وأخلاقها ومثلها وكرامتها. وإذا ما وجد هذا الإنسان العظيم الذي يعيد إليها توازنها في قيمها وأحلامها ومثلها وكرامتها. وإذا ما وجد هذا الإنسان الذي يتصدى لهذه التحديات كان في الطرف الآخر القلوب التي تهفو إليه، والحناجر التي تترنم ببطولاته وأفعاله العظمة في سبيل أصحابها المقهورين.
….. وإذا ما تصفحنا شعر المتنبي الخالد فإننا نج صورة عظيمة للإنسان المقاتل في سبيل إنسانية معذبة. يضحي مع مقاتليه الرجال كي يعيد لها ما فقدته في مجتمع الظلم ومن أبرز هذه الصور المشرقة لهذا النموذج تتال إنساني الرمز في البطولة والتصدي للعدو الخارجي الطامع والداخلي الذي أثار الفوضى، وأضاع القيم، وظلم الآلاف: صورة البطل الذي يشغل وجدانه الجماهير، تلك الصورة التي تتجسد فيها طموحات وهموم الناس المظلومين وتطلعاتهم إلى إعلاء صرح مجتمع جديد لاضطهاد فيه ولا ضياع.
… تلك الصورة تزهو على مرَ الأيام بالمهمة العالية، والبطولة الحقة، وترف في سفر الزمن مثالاً للإنسان المكافح الذي يفتدي_ مع رجال_في حقب قل فيها الافتداء، وقست على الناس الأفراد فآلمتهم؛ وقربت العبيد والموالي وأعزتهم.
لقد تغنى المتنبي تسع سنوات اتسعت دائرتها أبداً_ بهذه البطولة التي غدت في شعره قيمة إنسانية تحتاجها الأمم المغلوبة لتدفع عنها الظلم المقيت.
تغنى المتنبي ببطولة طمحت إلى استعادة حرية مفقودة، أعنيهم برؤية أوطانهم مسلوبة السيادة والحرية، مهيضة الجناح، وخالعة للنير الأجنبي الغاضب. وستبقى للأجيال غذاءً روحياً تقتات منه نفسها التواقة إلى الحيات الحرة الكريمة في دروب كفاحها الطويلة.
…. وإن أبا الطيب المتنبي_ بهذه الرؤية الإنسانية العميقة التي قدمت الحيات بأحلى صورها وهي البطولة والشهادة_ يكون قد تجاوز دنيا الأدب العربي إلى رحاب الأدب العالمي الذي خلد منه الأدب ذو النزعة الإنسانية. الأدب المعبر عن كفاح الإنسان في مجتمعه، وعن طاقاته وإمكانياته في الخلق والتغيير، والبناء والإبداع. الأدب الذي يرسخ قيم النضال العبقري المبدع استطاع أن يتجاوز عصره بأن جعل بطله وهو في مجموع هادر مكافح_ رمزاً للنضال الإنساني المستمر. وما دام هناك ظلم في المجتمعات سيكون الكفاح الساعي إلى انهيار أسطورة هذا التعسف. لذلك تتفجر في دروبه بطولات المقاتلين وراء قائد تاريخي فذ بعزمه وشجاعته، بصبره وذكائه، وبأناته ورجاحة عقله.
… وقليلون ألئك الأدباء الذين يستطيعون أن يخلقوا من فترة تاريخية محدودة فترة من فترات الإنسانية المعطاء. يقول أرنست فيشر(1) في كتابه( الاشتراكية والفن):
” إن كل فن هو وليد عصره، وهو يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي محدد، ومع مطامح هذا الوضع. لكن الفن يمضي إلى أبعد من هذا المدى. فهو يجعل كذلك من اللحظة التاريخية المحددة لحظة من لحظات الإنسانية، لحظة تفتح الأمل نحو تطور مستمر”.
…. وهكذا أبدع المتنبي في التعبير عن البطولة والعظمة في نصوص مستنا ولها الدراسة والتعليق. ورسخ قيمها التي تدفع بالأمم المغلوبة إلى ساحات الكفاح كي تستعيد حريتها وسيادتها.
أبدع ورسخ الشاعر الذي مجد الكفاح منذ صغره. يقول:
لا تحسبن الوفرة حتى ترى منشورة المضفرين يوم القتال
فلا عجب إن اكتسب المتنبي شهرة في رحابنا ورحاب العالم بقيت وستبقى تقارع الزمن من أجل الخلود، ملتهبة حماسة الناس وممتعة نفوسهم بشعر فيه الفن السامي الرفيع، وبالغة غايتها لأنها شدت على أوتار إنسانية دافئة الأنغام.
وأروع قصائده تلك التي كانت من وحي البطولة وعظمتها وفي مقدمتها قصيدة غراء رائعة في معركة طاحنة(2) لا تسمع فيها إلا صليل السيوف وحمحمة الخيل وارتطام الحديد، فيها القيادة الحكيمة لمجموعً قليل سيجابه جيشاً تصل ومازمه أذن الجوزاء.
يستهل المتنبي قصيدته بحكمة إنسانية: أفعال المرء ومكارمه تتناسب مع طاقاته واستعداداته. ولما كان الناس يتفاوتون في المقدرة وبعد الهمة فإن أعمالهم ومكارمهم ستتفاوت بالضرورة( فالأمور الصغيرة عظيمة في عين صغير القدر، والأمور العظيمة صغيرة في عين عظيم القدر) فالضعف الأول من الناس مثل القناعة الراضية وأحياناً الذليلة في الحياة والضعيف الثاني مثل الطموح والكبرياء، دائماً يستسهل الصعاب بعبقريته وعلو همته.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وفي هذه القصيدة سترى كيف صور المتنبي_ بمقدرة فنية فائقة تدعمها الخبرة والتجربة_ القيادة البطولية التي من أركان العزم وليس وحده بل معه عقل يخطط ورؤية عميقة شاملة تنفي الغرور وترسخ الثقة التي تواكلت القيادة التاريخية الفريدة في حقب التاريخ المتفاوتة. وقد روي عن بطل المتنبي تميزه بفكرٍ واقدٍ ومعرفة واسعة بجيوش الأعداء.
ويحمل البطل في نفسه العظيمة هموماً هي التي تخلق الهمم في نفوسهم المقاتلين. فالبطل في القصيدة هو العزم الذي يبدع عزماً في روح كل جندي رافق القائد إلى ساحة القتال، إنها فكرة إعداد المقاتل الفذ الذي يجب أن يغدو في ميادين القتال صورة عن قائده الذي علت همته وسخرت من المستحيل، ولكي يكون قادراً على مواجهة العشرات من جنود العدو.
وهكذا في لحظة إنسانية رائعة وتاريخية هامة تلتحم إرادة المقاتلين بإرادة القيادة المبدعة لتحقيق نصراً في معركة غير متكافئة، تنذر بالأهوال، على جيش هادرٍ كالأعاصير، عاصفٍ كالأنوار، غاضبٍ غضب الطبيعة المدمر:
يكلف سيف الدولة الجيش وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
هكذا يبتغي البطل أن يكون جنوده موئله في همه وشجاعته الفائقة التي لا تدعيها الأسود ادعاء بل تتصف بها اتصافاً. وليست الغاية هي إرهاق جنده بل خلق الروح الوثابة والمهمة العظيمة المشابهة لروح القائد العالية، هذه الروح هي التي ستثب إلى قلعة الحدث وقد غدت مشهداً دموياً أحمر لكثرة ما أريق فوق حجارتها من دماء، هذا المشهد هو الإطار الفني الرائع لمشاهد الصراع:
هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعلم أي الساميين الغمائم
هذه القلعة التي تخضبت راحتاها بدم الأعداء، ستبدل البطولة شرابها،وحريَ بالقلاع التي تحمي الثغور وتصد الأعداء أن تسقي من دماء الغازين لا من ماء الغمام. فلما جاء سيف الدولة ومقاتلوه قتلوا العدد الكثير من الروم فسقوها من دمائهم:
سقتها الغمام الغر قبل نزوله فلما دنا منها سقتها الجماجم
ويتابع المتنبي الحديث بإعجاب عن البطولة التي بنت القلعة على الرغم من تصدي الأعداء ومحاولات المنع. وهذا البناء قد أنجز في ظروف غير طبيعية، فقد أعلى بناؤها والنار تمتد ألسنتها فتلتهم، والفوارس يتواجهون بالقنا الذي يقرع القنا، القتال يدور والموت يزبد موجه، لا تهدأ موجه حتى تثور أخرى،فالمنايا أمواج متتابعة حول حجارة بدت في هيجاء واضطراب الحرب الدائرة رحاها. وفي زمن تاريخي حاسم عاد الأمن إلى القلعة وقد قهر من جنون الروم ونثرت أجسامهم فوق أرضها وذلك بفضل البطولة الفائقة:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم
وهكذا نجد أن البطولة التي أبلت بلاءً حسناً بالأعداء هي التي وهبت الحياة للقلعة فغدت من جديد الحصن المنيع الذي يصد العدو، ويحمي حدود الوطن فلا يستباح. فمواجهة الأعداء على مرَ الأزمان حتمية تاريخية تقتضيها الحياة الحرة الكريمة. والبطولات الحقة للقادة والمقاتلين هي التي تصنع مثل هذه الحياة، وهي التي تختصر من حياة الشعوب زمن المآسي وتحقق زمن الانتصارات الرائعة في عصورٍ قد تكون قاهرةً صعبة التحديات. والبطولة التي يتغنى بها أبو الطيب المتنبي تحدث زمناً صعباً فتراءت كأنها أقوى من الدهر نفسه تفعل ما يستحيل فعله على غيرها. وبفعلها المستحيل فقد عادت الطريدة(الفريسة)إلى حاميها:
طريدة دهر ساقها فرددتها على الدين بالخطىَ والدهر راغم
تغيث الليالي كل شيء أخذته وهن لما يأخذن منك غوارم
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم
ونعود مع المتنبي مرة أخرى إلى القيادة التاريخية المسئولة التي تتخذ قرارها التاريخي الحاسم في زمن يمتحن مثل هذه القيادات التي تدرك الأمور بذكائها، وتستشف المستقبل برؤيتها العميقة الشاملة، وتقدم بشجاعة فائقة تتواءم مع الأحلام الكبيرة والطموحات العظيمة:
ذكي تظنيه طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما ترى غدا
وصول إلى المستصعبات بخيله فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا
نعود إلى هذه القيادة التي اتخذت قرار الالتحام بمقاتليها القليل العدد مع جيش الأعداء الكثير العدد، الجيش الذي لبس الدرع وألبس الجياد الحديد حتى اختفت قوائمها. وهذا الجيش الذي بدا يبرق لكثرة ما عليه من حديد، خمسة أقسامً: المقدمة والسابقة والقلب والميمنة والميسرة واسمها الجناحان، وفيه جموع من أمم شتى لا تتفاهم بسبب لغاتها العديدة إلا بواسطة التراجم( وهذا أدلال على كثرة الجيش وتنوع أجناسه):
أتوك يجرون الحديد كأنما سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ثيابهم من مثلها والعمائم
خميس بشرق الأرض والغرب منهم وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة فما تفهم الحداثة إلا التراجم
…. وبعد القرار وبثقة عارمة تنزل هذه البطولة إلى ساحة الصدام لنحيلها مع مقاتليها إلى جحيم لاهب يذيب الدروع والسيوف الواهية الكلية، ويلتهم النفوس الضعيفة الجبانة. عندها لم يبقى إلا القوي الشجاع المتمرس بالقتال من البشر، والقوي الصارم من السيوف. بقي هذا وذاك إطارًا إنساناً رائعاً للبطولة المتوهجة القائدة جماهيرها إلى النصر المؤزر الذي أقامت صرحه الرجالات الحقة العظيمة فوق جماجم الأعداء المندحرين. هذه البطولة المتوهجة ما زالت مصدر إلهام الشاعر ومنبع وحيه الثر الذي لا ينضب_ وهكذا فإن الزمن الذي جاد بمثل هذه الرجولة، جاء في الوقت نفسه بشاعرية شفافة وقادة يتوهج فيها الحدس ويشرق فيها الإبداع ليخلق بصدق الانفعال بالحدث، وبترنح النفس بمشاهد البطولة، المعاني الرائعة والصور الحلوة التي تكتمل لوحة القيادة المسؤولية والبطولة العظيمة ومواقف المقاتلين الملحمية الرائعة.
هذه الشاعرية بعبقريتها الفذة الفريدة استطاعت أن ترسم لوحة خالدة للبطوللات التي قام بها جيش صغير هب مع قائده ليحمي(الحدث) ويعيد الأمن والسلام والطمأنينة وليصادم جيشاً عرمرماً كبيراً ما استطاع بضخامته أن يرهب الخصم أو يشل إرادة القتال والمتابعة فيه، بل بالعكس فقد استطاعت القيادة الحكيمة لهذا الجيش بسراياه المعدودة أن توقفه على أرض صلبة من الثقة والإيمان العميق بالنصر الأكيد. وفعلاً فقد صمدت هذه السرايا وتصدت لجموع غفيرةٍ من الأعداء وحققت المفاجأة التي أذهلت وأدهشت على مرَ الزمان. وهكذا بروعة فائقة تناغمت كلمات المتنبي مع نغمات سيف يقطع ورمح يطعن وخيل تصهل، وغاز فارٍ من موت يخطف الأبصار، أو مضرج بدمغ يلفظ نفسه الأخير. تناغمت مع البطولة التي تلاعب الموت في ساحة كلها موت. وقف في وسطها قائد المعركة البطل يقود مقاتليه ويرى بأم عينيه الأجسام المتناثرة المتساقطة بأيدي الموت التي امتدت إلى العيد، وقصرت ولم تطل هذا القائد، وكأنها شلت فأصبحت عاجزة لا تقوى. ما أروع هذه الصور الجميلة التي تمجد البطولة والعظمة الإنسانية، وقد فاضت بها أعماق المتنبي ووجدانه الذي أحب المقاتل الفارس في السلم والحرب.
ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن أبا الطيب المتنبي هو الشاعر الذي ثار على أوضاع سياسية واجتماعية متردية. ثار على عصر اختلت فيه معايير القيم والمثل، وعبثت به الفوضى، وانتهكت فيه الحرمان. واستحال العيش على الإنسان الحر الكريم وسهل على الإنسان الوصولي الذليل. ولا غرابة إذا عرفنا أن عصر أبي الطيب المتنبي هو عصر القهر الإنساني والاغتصاب والظلم عصر انهيار القيم والأخلاق، عصر القلق السياسي( إذا كان كل قوي قادر يقطع ويصبح حاكمها). ولقد شهد المتنبي هذه الأحوال المزرية بوعي عالٍ وثقافة واسعةٍ عميقة وشاعريةٍ انقادت لها روائع الأفكار فثار على هذه الأوضاع(1) باندفاع شبابيٍ ثوريٍ عارم يبتغي التغيير وتحطيم حكام في أحسن حالاتهم هم عبيد ولكن في القصور وعلى ظهور الخيل وبين الحاشيات. إذاً فالمتنبي الذي ثار في سبيل إخفاق الحق كان في ثورته معبراً تعبيراً حقيقياً عن الأزمة الاجتماعية السياسية الثقافية لعصره التي لا تحلها إلا الثورة وعن قناعته وإيمانه بأن مثل هذه الظروف لا يجابهها الضعفاء الأذلاء وإنما يتصدى لا غلالاتها في القيمة والمفهوم الإنساني الرجل الذي يحمل همة عالية، وإرادة قوية، وطموحاتٍ عظيمةً في نفس تقدس لبطولة والأبطال. وهكذا نجد المتنبي في مسيرة حياته يعتز بكل بطولة تتحدى الأزمان لتقهر، وترتدي الحديد وتمتطي صهوة الخيل وتمتشق الحسام وتنزل إلى ساحات القتال. وما القول بعد هذا سوى أن المتنبي عاش أمام البطولة حتى الشهادة، فضرب بموته مثلاً رائعاً للشهادة العظيمة في شبيل القناعان الإنسانية النبيلة. فكل ما ستراه في الأبيات التالية من تصوير رائع للبطلة ورسم دقيق لأبعادها العميقة هومن فيض واجدان أحب البطولة ونموذجها الإنساني الرائع.
فلله وقت ذوب الغش ناره فلم يبقى إلا صارمٌ أوضبا رم
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا وفر من الفرسان من لا يصادم
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
ويتابع الشاعر بريشته المبدعة رسم الألوان والظلال لتستكمل اللوحة روعتها. وذلك في الموقف السيكولوجي المدهش لقائد المعركة العسكري الذي خبر نفوس مقاتليه فأدرك ما لديهم من قدرات. وطاقاتٍ هائلةٍ للهجوم والقتال حتى ظهر وكأنه عالم بالغيب.يقرأ الأسرار وما خطهُ الزمن فيحرك جيشه بسرعة خاطفه ليجابه جيشاً من أضخم جيوش العصور القديمة. وفي قلب هذا الالتحام بين الجيشين يقف القائد وقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة وأشرق وجهه واثقا بالنصر الأكيد. وهو يرقب الأبطال الجرحى المنهزمين الذين لف جناحيهم على القلب فأهلك الجميع في نصر سريع سرعة وصول السيف من الهامة إلى النحر السيف الذي ازدرى الرمح مؤكداً أن السيوف الضاربة هي التي تحقق الانتصارات العظيمة وهي التي تنثر أجسام الأعداء نثر الدراهم على العروس. وإن تأكيد الشاعر على أن السيف هو الذي يحسم المعركة هو تأكيد لروعة الشجاعة وعظمة البطولة، وأن البطل الحقيقي الذي يصمد في المعركة هو الذي يلتقي أعداءه بسيفه الضارب لا برمحه أو نبله: تمر بك الأبطالُ كلمى هزيمةً ووجهك وضاحٌ وثغرك باسمُ
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى على قول قومٍ أنت بالغيب عالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب وصار إلى اللبان والنصر قادم
حقرت الروتينيات حتى طرحتها وحتى كأن السيف للرمح شاتم
ومن طلب الفتح الجليل فإنما مفاتيحه البيض الخفاف الصد ارم
نثرتهم فوق الأصيرب كله كما نثرت فوق العروس الدراهم
وهكذا ينتقل المتنبي بين نوعين من التصوير: التصوير الخارجي والتصوير النفسي. وفي كليهما الشاعر مبدع. ونحن البعيدين عن لهب المعركة مازلنا قريبين من دفء التعبير الإنساني الشفاف عن السيف الذي وضع حجاً للظلم والظالم. وهو في الوقت نفسه الذي يختصر المسافات والأزمان ويدل على البطولات التي تحقق نصر المظلومين وهزيمة الظالمين وبالتالي تحقق فرحة الإنسان في سيرته التاريخية الطويلة، مسيرة كفاحه الإنساني ضد الظلم والاستلاب.
وليس هناك أجمل من خوض معارك الحق ضدَ الباطل. والأجمل ذلك أن يكون النصر في النهايات حليف الحق. ونحن في معركة(الحدث) نجد طرفي الصراع: الظالم والمظلوم وبينهما الموت الزؤام. فمن يختار؟ في الحقيقة صعب اختياره، فهو متى جاء يحصد دون تمييز. يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصيب تمته ومن تخطى يعمر فيهرم
ويقول طرفة بن العبد:
لعمرك، إن الموت، ما أخطأ الفتى لكا لطول المرخى، وثنياه باليد
فكيف اختار الموت الظالمين في معركة الحد ث وأبقى على المظلومين؟
بين الحقيقة الوجودية الفكرة المجردة؟ وهو الشاعر الذي عرف على تتالي الأزمان بعمق تفكيره ونظرته إلى الوجود. فإذا في العمق سرٌ؛ إن المتنبي الذي خبر عصره خبر العصور الإنسانية السالفة فوجد فيها دوماً صراعاً إنسانياً مريراً بين المظلوم والظالم أي بين الحق والباطل. والشاعر ذو الرؤية العميقة أدرك أن التاريخ الإنساني صراع بين الظالم والمظلوم،بين صاحب الحق ومغتصبه، وأن المظلومين الذين يجابهون الظلم والظالمين، يرسخون في دروب المواجهة والنضال حقيقة أن مسيرة الحق النضالية لا تموت وإن تقهر آنيا وأن مسيرة الباطل فانية لا محالة كما يصرخ المتنبي ويصرخ معه التاريخ الإنساني بأمثلته العديدة على ذلك:
وكيف ترجى الروم والروس هدفها وذا الطعن أساسٌ لها ودعائم
وقد حاكموها والمنايا حواكمٌ فما مات مظلومٌ ولا عاش ظالمُ
وبعد الفرحة الإنسانية التي يثيرها المتنبي في نفوسنا بنهاية الظالم، يطالعنا مشهد آخر من المشاهد الرائعة التي عبرت أصدق تعبير عن البطولة وأعمال المجاهدين الذين لوَنوا حجارة( الحدث) بدماء الأعداء، وأعلو بناءها وسط ارتفاع أمواج الموت وقرع القنا بالقنا.
المشهد الجديد هو أيضاًً من مشاهد البطولة الأبطال التي تحك في النفوس الإنسانية مشاعر الحماسة والكفاح، هو مشهد الجياد التي تدوس أوكار النسور على الذرى. والخيل عند المتنبي ركن من أركان البطولة تلتحم مع البطل وسيفه فتشكل ثالوث البطولة المقدس: جواد أدهم وسيف أغضب وفارس أوجع. والخيل ليست وحدها في هذا المشهد وإنما معها رمزٌ آخر من رموز القوة في الحياة بين الكائنات الحية وهو النسور في أعشاشها التي يحسب حساب الاقتراب منها واقتحام هذه الأعشاش ضرب من ضروب الاعتداء على موطن من مواطن القوة في هذا الوجود بهذا الإبداع الرائع استمر المتنبي في تعظيم البطل والبطولة في الهمة الخارقة والعزم الجبار وفي فنون الفروسية والتمرس بها الذي يتجلى في حسن تربية الخيل وتعويدها على ممارسة مفاجآت الحروب( فقد صورها المتنبي في مز الق الجبال بالحيات التي تزحف على وجه الأرض):
تدوس بك الخيل الو كور على الذرا وقد كثرت حول الو كور المطاعم
تظن فراخ الفخ أنك زرتها آماتها وهي العتاق الصلادم
إذا زلفت مشينها ببطولاتها كما تتمشى في الصعيد الأراقم
والشاعر عبر في الأبيات السابقة من خلال سيف الدولة الحمداني ومقاتليه المكافحين، عن الإنسان البطل وعن الأبطال المجاهدين، عن البطولة وعظمتها في المجتمع الإنساني، وعن الرجالات التي تدعم هذه البطولة القائدة الذاكية المتنبئة ذات الرؤية العميقة والهمة العالية والعزم الجبار.
والشاعر لوََن هذه البطولة من نفسه التي من الصعب فصلها عن ذات البطل وذوات المقاتلين. لأن المتنبي أحب هؤلاء جميعاً، أحب حكمة البطل وحسن قيادته، وأحب روعة القتال عند جنوده وتفانيهم مع قائدهم في سبيل الحق ودحر الظلم، ولأنه أيضاً عبر من خلال هؤلاء جميعاً عن مبادىء خالدة أبداً: الشجاعة المقرونة العقلانية والذكاء، البطش بالداء، اقتحام الموت في سبيل الغايات الشريفة، الصلابة في الموقف. وهذه المبادىء لشدة ارتباطها بنفس المتنبي أخذت هذه العصور تستنهض الأمم المغلوبة على أمرها من أجل عزتها وسيادتها واستغلالها، وتستثير حماسة الأجيال الشبيبة التي تطمح دوماً إلى الأفضل والتي تلتهب حماسة ونشاطاً وحيوية وتنتظر في كل لحظة من أوطانها نداء الواجب في سبيل التضحية والفداء.
هذا الشاعر العبقري المبدع هو الذي رسم بريشته الفنية المبدعة صورة الضد المندحر المهزوم وفي قمة هذا الضد قائد جيش الروم الدمشقي وابنه وصهره، القائد الذي يلتقي الخصم وفي كل مرة يكون الضرب في قفاه فيفر هارباً. وفي معركة(الحدث) كانت هزيمته العظمى. ويرجع المتنبي الهزيمة إلى الجهل الذي يفوق جهل البهائم التي تعرف رائحة الليوث فهي أرهف حساً من قائد الروم الذي رئس الألوف الألوف التي حصدت رؤوسهم سيوف الأبطال المجاهدين والمدافعين عن ( الحدث) . وأي قائد هو هذا الذي يشكر صحبه في فوته الظبي(السيوف) وقد نجا منها في اللحظات التي تبتر رؤوس ومعاصم جنده. وأي قائد هم الذي يتجزأ في شعر المتنبي الملحمي إلى وجه وقفاً، تنشب بينهما معركة لوم وتقريع؟ لأن الضرب الذي لحق قفاه كان بسبب تقاعس الوجه الذي ولى هارباً. ألبس في هذا روعة في التصوير لمثل هذه القيادات الغبية الجاهلة؟ التي مرت وما زال يمر مثلها في التاريخ تتحكم بمقتضيات الأمر وبرقاب الآلاف الملايين من البشر، وتقود شعوبها إلى مآسي ما بعدها مآسي. والسلام الإنساني كان وما زال محفوفاً بالأخطار ومهدداً في كل ثانية بسبب أمثال هؤلاء الأغبياء المغامرين بمصير الإنسانية أجمع.
ويكتمل تصوير المتنبي الأروع في تهكمه على قائد الروم الذي جعله إن سمع صليل السيوف عرف بل أيقن أن صحبه مقتولون لا محالة. على الرغم من أن أصوات السيوف غير مفهومة. فالمعرفة لا بد أنها تمت بالإحساس. فأي قائد هذا الذي هو مثل حي للأناني الحريص على الخلاص الفردي والنجاة بنفسه وما أبعد هذه القيادة عن الإنسانية والإنسان! وما أقرب القيادة الأولى لدى النموذج الإنساني الرائع الذي عبر عنه المتنبي من خلا بطله(سيف الدولة) إلى الإنسانية والإنسان القيادة المسئولة الحكيمة الحريصة كل الحرص على حياة كل مقاتل معها والتي تدخل أفئدة الناس على مرَ العصور إعجاباً بسموها وبنبلها وتفانيها في سبيل حياة جيشها. ما أروعها من قيادة تناقضت مع قيادة الغطرسة والادعاء والجهل والأنانية. تناقضت وما زالت بمثلها الإنساني العظيم تتناقض مع كل قيادة تريد رجالها لحياتها. يقول المتنبي من قصيدة أخرى تبدو فيها البطولة مثلاً على مرَ العصور:
الجيش جيشك غير أنك جيشه في قلبه ويمينه وشماله
ترد الطعان المر عن فرسانه وتنازل الأبطال عن أبطاله
كل يريد رجاله لحياته يا من يريد حياته لرجاله
ونعود مع المتنبي إلى استكمال النهايات الطبيعيَة في الحياة لرموز الظلم التي تقطف الهزيمة والاندحار والموت في نهاية المطاف. وأما نقيض هذه الرموز فهو صاحب الحق والقضية العادلة التي تحقق انتصارها البطولات العظيمة لرجالها المؤمنين بها المستميتين في سبيلها. وهكذا انتصر البطل في الحدث، والأبطال المقاتلون معه وقضيتهم النبيلة وسقط الكبر القائم على سراب:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم قفاه على الإقدام الوجه لائم
أينكر ريح حتى يذوقه وقد عرفت ريح الليوث البهائم
وقد فجعته بابنه وابن صهره وبالصهر حملات الأمير الغوا شم
مضى يستنكر الأصحاب في فوته الظبي لما شغلها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم على أن أصوات السيوف أعاجم
يسرَ بما أعطاك لا عن جهالة ولكن مغنوماً نجا منك غانم
ومع آخر حرفٍ في قصيدة المتنبي في(الحدث) يسدل الستار على معركة بين جيشين: الأول في قمة هرمه قيادة متمرسة بالقتال جريئة عليه سريعة التقرير والمواجهة، عالمة بتهيئة الجو النفسي للمقاتلين، حسنة البلاء والمخاطره والمباغتة، واثقة بالنصر لأنا تقاتل في سبيل قضية نبيلة لشعب يقهر حكامه وقد ناموا في قصورهم التي تنعم بالحرائر وألقوا بالمهمة على هذا القائد التاريخي الفذَ الذي ركب إلى الأعداء خيولاً ألفت ساحات القتال، تمضي كالسهم، وقد خفي لونها لما علاها من غبار المعارك:
فأتتهم خوارق الأرض ما تحمل (م) إلا الحديد والأبطال
خافيات اللون قد نسج النقع (م) عليها برقعا وجلالا
وأما الجيش الثاني فهو الجيش الهارب وقد خذله قائده وتركه في ميادين الوغى الطاحنة تنهبا للسيوف( دماء مراقة، ورؤوس مبعثرة، وأجسام منثورة، وهو ما بعد للإنسان الذي يرى في ومضة عين قائده ينهزم، فماذا يفعل؟ سوى الاستسلام بعد انهيار معنوي قاتل).
وفي قصيدة اللامية هذه براعة وجودة في وصف الحب والجهاد والبطولة التي تقسم فيها الخيل وعوالي الرماح_ معاهدة بطلها_ على أن تخوض أهوال الحرب معه وتتلقى شدائدها عنه، وان تفعل المعجزات لتحقيق النصر على الأعداء الذين تمنوا هدم(الحدث).
والشاعر الذي قرن الفروسية بالمتهمات العتاق الصلادم وبالسيوف الضوارب، أبدع بفنه المبدع صوراً للبطل والبطولة ستظل أبداً تنبض بالحياة والخلود مؤثرة في صيرورتها من أجل الأمثل في عالم الهداف والغايات النبيلة.
كما أبدع صوراً للعدو المدحور ستظل تلهبنا حقداً عليه وسخرية منه وتهكماً على ضعفه وفراره وهزيمته. وبالنقلة هذه سينهد كيانه النفسيَ وكلما أراد أن ينزلها عن رأسه وسعت بناءها حتى شملت جبينه فذاله وبالتالي ازداد قلقاً وغيظاً.
حالفته صدورها والعوالي لتخوض دونه الأهوالا
ولتمضين بنيه لا يجد الرمح مداراً ولا الحصان مجالا
كلما رام حطها اتسع البني فغطى جبينه والق ذالا
وهذا القلق النفسي هو الموت المعنوي للإنسان قبل أن يخطف الموت الحقيقي روحه، وهو سبب عدم التوازن النفسي الذي تبحث عنه طبيعة النفس الإنسانية دوماً حتى لا يشلها العجز فتضعف وتنهزم في دروب الحياة. وقائد الروم اصطدم حلمه في السيطرة على( الحدث) بعجزه فمات حلمه في نفسه وفرَ مدحوراً يدفعه عجزه، منطوباًعلى حسرة مريرة وألم أمرَ، وهو الذي جرب في المرات الماضية النزال مع البطولات التي حمت( الحدث) وصانتها. فرأى بأم عينيه كيف تحصد الآجال وكيف يحسن الأبطال الحقيقيون القتال الذي زرع الخوف في القلوب وأمات الآمال العراض في النفوس التي شاهدت
في ميادين القتال المتناوب أذرعاً وسطوراً_ تذروها الرياح أمامهم_ تنذر أجسامهم القيام بها لأنها تريهم لكل عضوٍ منهم مثله من المقتولين:
يجمع الروم والصقا لب والبلغار فيها وتجمع الآجا لا
وتوافيهم بها في القنا السمر كما وافت العطاشى الصلالا
ما قضوا لم يقاتلوك ولكن القتال الذي كفاك القتلا
والذي قطع الرقاب من الضر ب بكفيك قطع الآمال
تحمل الريح بينهم شعر الها م وتذري عليهم الأوصال
تنذر الجسم أن يقوم ليها فتريه لكل عضو مثالا
ولما كان للبطولة العظيمة فعلها العظيم وتأثيرها الساحر في نفوس الخصم، فإن الحالة المعنوية التي تخلقها في لحظات المصير الإنساني هامة في تحديد هذا المصير. والمتنبي لا تفلت منه لوحات البطولات التي تلونها الأضاحي والإفتداءات والبلاءات الحسنة بالأعداء. فماذا فعل صاغ لهذه اللوحات الساحرة إطاراً فنياً رائعاً ومنحها عمقاً إنسانياً خالداً وتفنن في المضامين الرائعة التي تعبر عن المثل نقيضه في صور لا أزهى ولا أحلى.
ويعود الشاعر مرة أخرى إلى الحالة النفسية للعدد التي خلقتها بطولات
المجاهدين وخلفت في نفوس الأعداء الهلع والرعب. فإذا أراد هؤلاء أن ينازلوا فمن شدة خوفهم يبصرون الطعن في القلوب تخيلاً قبل أن يبصروا الرماح حقيقة. وإذا أرادوا المطاعنة أو همهم الخوف أن الذراع من الرماح ميل (أي فزعوا أن تطالهم هذه الرماح ولو كانوا على مسافة أميال منها). أبعد هذا يبقى صمود لهم في ميادين القتال؟ أم يولون هاربين؟ وكيف الثبات في المعامع وقد قيدتها السيوف من شدة الروع؟
أبصروا الطعن في القلوب دراكاً قبل أن يبصروا الرماح خيلا
وإذا حاولت طعانك خيلٌ أبصرت أذرع القنا أميالا
بسط الرعب في اليمين يميناً فتولوا وفي الشمائل شمالا
ينفض الروع أيدياً ليس تدري أسيوفا حملن أم أغلالا
ويعود الشاعر من جديد وفي صيغه جديدة إلى جيش العدد الذي تحصده البطولة ويفر قائده وكأنه قد قدمه لقمة سائغة للخصم أو هدية منه إليهما يشك اللعين في أخذك الجيش فهل يبعث الجيوش نوالا وفي قصيدة أخرى ورد مثل هذا القول:
ورب مريدٍ ضره ضر نفسه وهادٍ إليه الجيش أهدى وما هدى
وتتألق البطولة، ويتألق معها المتنبي في قصيدة جديدة من غرره المتنورة في ديوانه. والشاعر الذي انتسب في حياته