مسألة الحرية والديموقراطية في تقرير التنمية العربية
العراق وفلسطين، و»فرض» الحريات والديموقراطية في نطاق مشروع «الشرق الأوسط الأوسع». وقد صدر التقرير قبل عشرة ايام، وقال مُصدروه انه لم يتعرض لأي تعديل، ثم أنكر بعضهم تعرضه لضغوط ايضاً! وأياً يكن الأمر، فقد قرأت التقرير بدقة، وأرى ان التعديلات كانت طفيفة، ولا تتجاوز «تجهيل الفاعل» المعروف اصلاً، في بعض المواطن. وينتهي الأمر عند هذا الحد، أي ان الضرر المخوف لم يقع، لكن ينبغي ان نضع في خلفية رؤوسنا ما هو معروف ايضاً: لا حرية ولا ديموقراطية إلا ضمن شروط وسياقات «نضالية» باعتبار مواجهتها تحديات محلية وإقليمية وعالمية.
التقرير الثالث للتنمية الإنسانية العربية (2004) مفاجئ وغير مفاجئ في آن. مفاجئ في اسلوبه النهضوي والنضالي، مع غياب الطابع الإنشائي والبلاغي، وتضاؤل النزعة الثقافوية، وغير مفاجئ من حيث انه عرض اموراً ووقائع معروفة ليس فيها جديد او مختف او لم يكن في الوعي العام. هناك سياقات وأصول عالمية معروفة، والعرب حكومات ومجتمعات متخلفون عنها، لكن الحكومات متخلفة اكثر من المجتمعات او هيئات ما يسمى بالمجتمع المدني. في التقريرين السابقين للعامين 2002 و2003 كان هناك نزوع ثوروي يستند الى مقولة المجتمع المدني، والتي انشأت الديموقراطيات في اوروبا والولايات المتحدة، والمعسكر الغربي في شكل عام. وقد تعدل هذا التوجه او توازن في التقرير الثالث: فالنخب السياسية العربية النظامية لا تزال اقوى من الهيئات الطوعية والتطوعية، وأقوى من الأحزاب السياسية. وهي بدأت السير في السياقات الإصلاحية، وإن ببطء وتردد. وهناك في بلدان عربية عدة انجازات في السنتين الأخيرتين في مجالات عدة من التنمية الإنسانية والسياسية. لكن، كما سبق القول، ببطء ومن دون تنسيق وتناسق بين شتى القطاعات، وفي كثير من الأحيان بسبب الضغوط الخارجية اكثر من الداخلية.
والأمر الآخر الذي ارى ان التقرير مفيد فيه، الاستطلاعات الميدانية في خمس دول عربية حول مفاهيم الحرية وممارساتها. الدراسة تقول ان العرب المحدثين لا يشكون من نقص في وعي الحرية والكتابة فيها، لكنهم يميلون الى اعتبارها حرية نضالية في مواجهة الاستعمار والصهيونية. لكن الاستطلاعات تدل على ارتباط الحرية في اذهان الجمهور بقضايا محددة متعلقة بحريات التعبير، والحقوق الإنسانية الاساسية في الصحة والتعليم والعمل والتنقل والتداول السلمي للسلطة. ولهذه الحريات في إدراكات الجمهور حدود وسياقات طبعاً. ففي حدود العام 2015 سيكون عدد ابناء الأمة العربية 400 مليون، بينهم 70 مليوناً من الأميين. وتتجاوز امية النساء نصف عددهن في بعض البلدان. وهناك اليوم 10 ملايين طفل عربي خارج المدارس. وهذه امور تؤثر جميعها ليس في إدراكات الجمهور وحسب، بل وفي قدرته على الحراك من اجل الحرية والمشاركة.
وفي التقرير الثالث توجُّه محمود الى الأطر والمؤسسات، اذا صح التعبير. اذ كيف تتجلى منجزات الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، خارج ما يعرف بتداول السلطة على رأس الدولة، وعلى المؤسسات الدستورية، والسلطة التنفيذية بالذات. وما هي تأثيرات «الأجهزة الأمنية»، والقضاء غير المستقل في ممارسة الحريات؟ وبمعنى آخر ان العلة لا تكمن في الدساتير المحافظة او بعض موادها فقط، بل تكمن ايضاً في الآليات التنفيذية لتلك الدساتير المعطلة بالقوانين والمحاكم الاستثنائية حكماً، او من دون تلك القوانين في احيان كثيرة. والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن اهمها تعطيل الحريات وبواسطة الآليات التي يُفترض فيها ان تكون ضمانة لإنجازها: الانتخابات! التي تحولت في كثير من الأحيان الى استفتاءات تعيد انتاج او تعطي الشرعية لما هو موجود اصلاً.
وليس من مهمة تقرير كتقرير التنمية الإنسانية العربية القيام بقراءة تأصيلية او مضمونية للمفاهيم بطرائق فلسفية او ابستمولوجية، لكن كثيراً من طروحاته وأطروحاته، تجعل من النقاش حول المفاهيم امراً ضرورياً. ما تلهى التقرير كثيراً بـ»تأصيل» مفاهيم الحرية والديموقراطية في الأنظمة السياسية الحديثة، بل حسم المرجعية لصالح نظرية جون ستيوارت ميل في النصف الأول من القرن التاسع عشر. والطريف ان الإصلاحيين المسلمين في فورتهم الأولى قالوا بذلك ايضاً. فعندما سئل رشيد رضا عام 1907 عن سبب عدم تسمية الحكم الدستوري حكما شوروياً، قال ما معناه اننا لم ندرك ان الشورى يمكن ان تكون لها هذه الأبعاد إلا بعد ان رأينا وخبرنا الحكم الدستوري الغربي. ولكي لا نغوص بعيداً في التنظير, فما اردت التساؤل عنه في هذا السياق هو مفهوم او مفاهيم «الشرعية» في اذهان الجمهور العربي والإسلامي. هناك امر ظاهر في التقرير وخارجه: الجمهور العربي يعتبر الحرية حقاً اساسياً له، يتناول شتى جوانبها وبخاصة ما يعرف بالحريات الأساسية في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. لكن هل يتماهى هذا الأمر في وعيه مع «الشرعية»؟ بمعنى ان النظام الذي يؤمّن او يكفل «الحريات» يكون شرعياً، والعكس بالعكس؟ ما خاض التقرير هذا النقاش من الناحية النظرية او العملية. وواضح ما المقصود بالناحية النظرية التي تتناول التاريخ والتجربة الحديثة، اما الناحية العملية فأقصد بها الاستطلاعات الميدانية التي سلك سبيلها في نواح اخرى. والذي كنت اراه وما عدت متأكداً منه ان الحرية والشرعية اساسان في الوعي العربي الإسلامي، وأن الحرية لا تستوعب الشرعية، وإن تكن ذات إسهام بارز في تحقيقها.
وقد اغتبطت لتضاؤل النزوع الثقافي في التقرير الثالث. وأعني بالنزوع الثقافي اللجوء الى افتر
اض استمرارية او مرجعية حاكمة للمفاهيم والمؤسسات او اللجوء الى العكس: نفي وجود مرجعية تراثية لهذه المفاهيم الحديثة. وقد احتلت مسألة التأصيل مساحة واسعة في الوعي العربي لدى التقدميين والإسلاميين على حد سواء، وعلى مدى الخمسين سنة الماضية، قال التقدميون ان هناك إسلاميين احدهما رجعي والآخر تقدمي. وقال الإسلاميون ان هناك فارقاً بين النص والتجربة والتاريخ، وهم يؤصّلون على النص دون التجربة، وقد رأيت دائماً ان الثقافة تتشكل عبر ازمنة متطاولة، وهي تتصل بالوعي اكثر مما تتصل بالواقع الذي تُمارس عليه انتقائية اشكالية ومعقدة. وكما سبق القول، فإن التقرير الثالث هذا سلك مسلكاً مختلفاً تجاه هذا الأمر، امر الثقافة والتأصيل. في التقرير الأول بدا الثوروي العربي ثائراً على التأصيل لصالح حداثوية ثوروية، وفي التقرير الثاني اختار الثقافوية التقدمية ازاء هذه المشكلة بالذات. اما في التقرير الثالث فقد تجنب التأصيل الكثيف من أي نوع، وذكر مرجعيات تراثية قليلة، واعتبر الحرية الإنسانية قيمة لدى كل البشر، والمأثورات عن العرب والمسلمين تُثبت انتماءهم الى هذه الإنسية العامة، وليس على سبيل التبرير او التسويغ. لكن وفي هذه الحدود المتواضعة لاستخدام التأصيل او وجود تيار للحرية والحقوق (حتى الدستورية) في تراثنا كان يمكن الاستشهاد بنصوص وقوى جرى تجاهلها لصالح هامشيات غير ذات معنى كبير. فالجبرية الأموية كان لها خصومها من القدرية والمعتزلة والمرجئة، الذين تحالفوا مع آخرين وأسقطوا الدولة الأموية في النهاية، ولهم نصوص جميلة في الحرية والشورى، وإن لم تسد مشروعهم. وابن المقفع (-762م) دعا لاشتراع دستور للدولة العباسية الجديدة يحدد صلاحيات الحاكم وحقوق المحكوم وسياقات: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (رسالة الصحابة) – وقد سمى الدستور: أمان. وفكرة «الحقوق»، ومنها «حقوق العباد» ليست آتية من «التكاليف» الشرعية كما ذهب لذلك الأستاذ محمد عمارة، بل هي آتية من منظومة اصول الفقه: حقوق الله، وحقوق العباد، والحقوق المشتركة بين الله والعبد. وإلى جانب منظومة الحقوق، هناك منظومة «المقاصد الشرعية» التي تضمن بمقتضاها الشرائع والملل للناس الضروريات الخمس كما هو معروف: حق الحياة، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسل، وحق الملك، ويسميها الفقهاء: مصالح للأفراد، لا تستمر المجتمعات من دونها.
التقرير الثالث للتنمية الإنسانية العربية رصين وجاد وهادئ في تناول مشكلاتنا وقضايانا ومآسينا. ولا بد من عودة اخرى إليه، اذ هو يستحق منا اكثر من وقفة.