الإصلاح العربي: متى وكيف ولماذا؟!
المنطقة وأحرارها ودعاة الإصلاح فيها ولتوسع «البيكار» لإدخال اسرائيل في المعادلة في عملية «تسلل» ماكرة تحت ستار ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير.
وبقدرة قادر تحولت الدعوات والمطالب الى موضة العصر و”صرعة» الصالونات والمنتديات فحمل الراية كل من هب ودب وسايرت القيادات في «الزفة» لمجاراة التيار، او للهروب الى الأمام من استحقاقات يبدو انها آتية لا محالة.
من حيث المبدأ يجب ان نفرح ونهلل لهذا التطور الذي انتظرنا قدومه منذ اكثر من نصف قرن عانينا خلاله الأمرين من الديكتاتورية والتفرد والفساد وآفاته الكبرى والحروب وانتهاكات حقوق الإنسان، كما ان علينا ان نمني النفس بمستقبل زاهر لا ظلم فيه ولا إرهاب ولا تهميش للشعوب ولكن علينا ايضاً، وقبل كل شيء ان نتساءل عن الغايات المبيتة وعن المخططات المرسومة ثم نطرح اسئلة بديهية عن الإصلاح المطلوب وحجمه ومداه وأسلوبه على طريقة السؤال الصحافي الأساسي: كيف ومتى وأين ولماذا؟
يجب اولاً، وفق اهل الاختصاص في علم النفس الاعتراف بوجود علة ثم تقبل فكرة اللجوء للعلاج وتناول الدواء حتى ولو كان مراً وعندها يمكن الانتقال الى مرحلة التعامل مع آلية التنفيذ ومحاولة تجنب سلبياتها من دون تجاهل او تقليل من اهمية مواكبة استحقاقات العولمة واصطياد ما يفيد وينفع من ايجابياتها او على الأقل التعايش مع الواقع الجديد ومحاولة الإفادة منها والتقليل من حجم خسائرها عند الشروع في عملية الإصلاح الصعبة التي يفترض ان تكون طويلة وتنفذ على مراحل.
الاعتراف بوجود علة يعني قبل كل شيء عدم التهرب من تحمل المسؤوليات الملقاة على عاتق كل عربي من القمة الى القاعدة في الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية لأمتنا ومواطن التميز فيها والإفادة من الحضارات الأخرى بتقوية الذات وتحصين النفس ثم في الدخول في حوار ايجابي وموضوعي وصولاً الى تحقيق المعادلة الصعبة في المزج بين الأصالة والمعاصرة وفقاً لمبدأ «الجمع والمنع» أي جمع ما يغني هويتنا ويثري روافدها ومنع ما يضر وما يهددها ويؤدي الى طمسها او محوها من الأساس.
بعد هذا الاعتراف يأتي التساؤل عن الأهداف والغايات بعيداً من الهدف السامي الأمثل الذي تسعى إليه الشعوب لأن هناك من يطرح مسألة الإصلاح لغاية في نفس يعقوب، وآخر يطرحه كهدف ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. وهناك من يطرحه لذر الرماد في العيون او للالتفاف على الاستحقاق لتفريغه من معانيه ومراميه ومبادئه الأساسية.
اما من صدقت مراميه وتوافرت لديه القناعة بأن الإصلاح حاجة ملحة لا مهرب منه ولا مصلحة من تجاهله او تأجيله، فإن عليه الالتزام بشروط وثوابت اولها توافر النية والرغبة والإرادة والعزيمة والاستعداد لخوض غمار هذه المعركة الحاسمة في حياة العرب التي ستحدد مصيرهم ومستقبلهم، بخاصة ان تقرير التنمية البشرية الذي صدر قبل ايام بشر بالخراب اذا لم يتحقق الإصلاح المنشود بسرعة.
هذه الثوابت اللازمة لنجاح مسيرة الإصلاح متعددة العوامل والجوانب لا مناص من اخذها في الاعتبار ومعالجتها بجدية على الصعيدين الداخلي والعربي وحتى الخارجي.
فبالنسبة الى العمل العربي المشترك والعلاقات العربية ? العربية ومجمل الأوضاع في المنطقة لا مجال هنا للتوسع في العرض لأنه يحتاج الى مقال آخر منفصل وموسع إلا ان الواجب يدعونا الى تدارك الأخطار والكف عن سياسة المماطلة وخداع النفس والاستمرار في اخطاء وخطايا اكثر من 60 عاماً من عمر جامعة الدول العربية. وقد حاولت القمم العربية وآخرها ان النظام العربي العام غير موجود، وإذا وجد فإنه فاسد وضعيف وغير قابل للحياة. ولا يحتاج الأمر الى الكثير من التعمق لإدراك ثوابت الإصلاح الأولية والتي لا تقوم له قائمة من دونها وفي مقدمها ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وبالتالي ايجاد سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط على اساس قرارات الشرعية الدولية وتحرير الأراضي العربية المحتلة. ومن الثوابت الأخرى الحفاظ على الهوية العربية والانفتاح على الآخر وإيجاد حلول للمشاكل الناجمة عن احتلال العراق وغيره من الأزمات والقضاء على آفة الإرهاب والتطرف, وإقامة منظومة للتعاون العربي في المجالات كافة ولا سيما مجال الاقتصاد والمصالح المشتركة لمعالجة الآفات الأخرى من فقر وبطالة وأمية وتخلف ومواكبة عصر التكامل والتجمعات والتكتلات الكبرى ومفاعيل العولمة الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية.
اما بالنسبة الى الإصلاح الداخلي في كل دولة عربية، فإن الثوابت والمتطلبات متعددة اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– إن الإصلاح عملية صعبة ومعقدة وتحتاج الى ثقاقة خاصة بمفاهيمها وعملية توجيه وإدراك لأهميتها والوسائل المعتمدة في آلية التنفيذ، وهنا لا بد من تجديد الدعوة للاستخدام الصائب للفضائيات العربية بدلاً من تسخيرها لإثارة الفتن وإشاعة الفوضى.
– ان هذه العملية لا بد من ان تأتي من الداخل، ومن قناعات الشعوب والقيادات ولا تفرض من الخارج ابداً في اطار سلسلة الإملاءات التي نشهد فصولها هذه الأيام. كما ان مبادئها لا تستورد ولا تفرض بالقوة كما كان يجري بالنسبة الى المبادئ المستوردة التي طبقت من قبل في عدد وافر من الدول العربية وأدت الى خراب وكوارث وضياع دفعت الشعوب العربية بسببها ثمناً غالياً من دمها واقتصادها وسلامها واستقرارها وأمنها وأمانها وحاضرها ومستقبلها.
والإيجابي في الموضوع ان معظم المواقف والبيانات التي صدرت اخيراً اجمعت على هذا المبدأ واعترفت بخطأ فرض الإصلاح من الخارج بل ان الرئيس جورج بوش نفسه الذي كان يروج، لأسبابه الخاصة، للديموقراطية والإصلاح الحتمي صرح قبل ايام بعكس ما كان يبشر به. إذ قال: «اننا لا نريد ان نفرض ديموقراطيتنا على الدول العربية بل سنتعاون معها على تنفيذ خطوات الإصلاح» وسط قناعة بوجوب الكف عن التوجه للعالم العربي من «فوق رؤوس الأنظمة”!!
– ان أي إصلاح جذري يجب ان ينفذ على مراحل وأن يقدم العلاج على جرعات وبدفعات مدروسة ومتوازنة لأن التدرج ضروري، والمرحلية مطلوبة حتى لا تنتكس التجربة ويتم الوقوع بالمحظور. ولهذا لا بد من اخذ تجارب الجزائر ولبنان والأردن في الاعتبار ودراسة وسائل التنفيذ بعناية لتجنيب البلاد ديموقراطية زائفة او فسح المجال امام ديموقراطية مرهونة للتطرف الديني او العرقي والحزبي الضيق.
– ان هذا التدرج يجب ان يأخذ في الحسبان خصوصية كل دولة عربية على حدة. فما ينجح في سورية او لبنان لا يمكن ان يطبق في السعودية ودول الخليج، وما يفشل في مصر يمكن ان ينجح في المغرب والعكس بالعكس.
– لا بد من الاتعاظ بتجارب الماضي والإفادة من متغيرات العصر، كما ان من الواجب التخلص من عقدة تحكم الأكثرية بمصير الأقلية وإخضاعها لإملاءاتها او ديكتاتورية الأقلية على الأكثرية وسيطرتها عليها بالقمع والقوة والقهر لتجنب ردود الفعل والانتفاضات والثورات ومن ثم العودة الى نقطة الصفر والتبشير بالخراب وتكرار الأخطاء القاتلة.
– ان أي اصلاح لا يمكن ان يبصر النور إلا اذا ارتكز على سيادة القانون واحترام الدساتير وتكريس مبادئ حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة. وهذا يحتاج الى قناعة وشفافية واجتثاث كامل لجذور الفساد وآفات المفسدين ومحاسبتهم امام القضاء العادل.
– اذا كان الإصلاح المنشود لا يفرض من الخارج، فإنه بالطبع لن يفرض فرصاً من «فوق» بل لا بد من مشاركة كافة فئات الشباب ولا سيما هيئات ومؤسسات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات مهنية ونسائية وحقوق إنسان وبيئة وغيرها، ومشاركة المرأة اساسية وضرورية في هذا المجال الحيوي بعد ان تم تهميش دورها لقرون خلت.
وشهد منتدى الدوحة الخامس للديموقراطية والتجارة الحرة الذي اختتم اخيراً بمشاركة مئات المفكرين والسياسيين والإعلاميين نقاشاً واسعاً حول هذه الثوابت التي لخصها امير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بقوله: ان التحول نحو الديموقراطية والاقتصاد الحر لا يمكن ان يكتمل ما لم يستند الى ارادة جادة تعي اهمية الإصلاح. ولهذا لا بد من ان نجتهد لتوفير ثقافة متكاملة للتغيير، فيما اكد وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر وجود طرفين: اولهما الموافقة الحكومية على قيام الديموقراطية في شكل منظم ومتدرج ومجدول، وثانيهما الإرادة الشعبية في هذا الاتجاه فيما ركز وزير الطاقة الكويتي الشيخ احمد الفهد الأحمد الصباح على تطوير التعليم والمحافظة على العدل والمساواة والحرية وتطوير المجتمع المدني حتى نصل الى التنمية الشاملة والمنشودة… مع التأكيد أن المجتمع الديموقراطي لن يتجسد إلا بتوفير الدور الفاعل للمرأة ومشاركتها في تقرير المصير.
بدورها لخصت الدكتورة عاهدة طالب الأمين الأستاذة في الجامعة اللبنانية اهمية هذا الدور بقولها ان المهمة الكبرى تقع على عاتق المرأة نفسها، التي تعيد في كثير من الأحيان، انتاج الحال التي تشكو منها. ولا بد من:
– ان تثق اولاً بقدراتها التي لا تختلف عن قدرات الرجل إلا باختلاف الظروف المحيطة.
– ان تنظر بعين ناقدة لما يحيط بها من اعراف وتقاليد.
– ان تعي مواطنيتها وتشارك في السياسة العامة لوطنها عبر الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني المختلفة: نقابات، احزاب سياسية، جمعيات.
– ان تساهم في الحملات المطلبية الضاغطة.
– ان تمارس الديموقراطية داخل اسرتها وذلك عبر:
– التربية على المساواة وعدم التمييز بين ابنائها وبناتها واعتماد الحوار منهجاً في حل القضايا بدل لغة الأمر والطاعة وإفساح المجال للتعبير الحر واحترام الآراء المختلفة وعدم اعتماد العنف المباشر او غير المباشر.
هذه هي اذن مجمل الثوابت والعوامل التي يمكن ان توفر المناخ اللازم للإجابة عن الأسئلة الأولى المطروحة عن الإصلاح والديموقراطية في العالم العربي مثل كيف ولماذا ومتى وأين؟ ولكنني اركز مرة اخرى على عامل مهم وهو الاعتراف بأخطاء التجارب المريرة التي مرت بها الدول العربية وإعادة تقويم المرحلة بموضوعية وصدق وعقل مفتوح ونية صادقة بعيداً من الحساسيات والهواجس وعقد النقص والخوف من الاعتراف بالحقيقة واعتماد سياسة الطمس والصمت المفروض والتكاذب المتبادل وفرض المحرمات على أي جدال او انتقاد ذاتي.
وأختتم مع عبارات مهمة سمعتها من سياسي عراقي كبير سابق التقيته قبل ايام في ردهة احد الفنادق في عاصمة عربية، فبعد مجاملات وحوار عام وجهت إليه سؤالاً جدياً لا لباقة فيه ولا لياقة: الآن بعد ان سقطت بغداد واحتل العراق في هذا الشكل المهين… وبعد سنتين من الخراب والدمار والفقر والتشريد وتهجير الملايين، وأنتم صرتم منهم!! ألا تشعر بالندم لما اقترفه النظام؟ ألا تحس بالمرارة وتحاسب نفسك… ونظام صدام وكل مسؤول فيه على ما جنيتموه على الشعب العراقي النبيل الذي لا يستحق منكم هذه المعاملة المهينة في الحكم… ثم في الهروب من معركة الشرف والكرامة؟
توقعت ان يغضب المسؤول العراقي الكبير السابق او ان يرد علي بعنف ويشتمني بحسب ما كنا نشهده من اركان النظام ايام السطوة والتفرد… ولكنه كان محبطاً وضعيفاً اذ أطرق برأسه قليلاً ورد بكل هدوء وبصوت خافت: «الحقيقة انني اعيد تقويم كل ما جرى وتحليل الأحداث وتسلسلها… وسأحاول تسجيلها للأجيال… وللتاريخ… ولكنني استطيع ان اؤكد لك من حيث المبدأ وبتحليل اولي توصلت إليه: ان الأخطاء كثيرة… وأن تجاربنا لم تكن كلها على صواب بل انني بت على قناعة بأنه حتى العهد الملكي العراقي الذي خلفه انقلاب 14 تموز (يوليو) 1958 لم يكن سيئاً بل كان يحتوي على ايجابيات الى جانب السلبيات!!
ترى، هل يمكن تعميم «فعل الندامة» هذا على امتداد الوطن العربي كخطوة اولى نحو طريق الإصلاح المنشود؟!