كيف يمكن تجاهل الفقراء؟
يجب البدء بالحلّ الذي يقترحه الكتاب المقدّس: إنّ الفقراء يتعذّبون في هذه الدنيا، لكنهم سيحصلون على مكافأة عظيمة في الآخرة.
بعد وقت طويل، خلال العشرين أو الثلاثين عاماً الذين تبعوا نشر “أبحاث حول الطبيعة وأسباب ثراء الأوطان”، في العام 1776 – فاتحة للثورة الصناعية في إنكلترا طبعت بعد وفاة مؤلفها، آدم سميث، الذي توفي في العام 1759-، بدأت المشكلة وحلّها تتّخذان شكلهما الحديث. فقد ابتكر شخص شبه معاصر لسميث، هو جيريمي بينتام (1832-1748)، صيغة كان لها تأثير مذهل على الفكر البريطاني وأيضاً، إلى حدّ ما، على الفكر الأميركي خلال خمسين عاماً: المنفعيّة. كتب بيالفضيلة ركيزة1789، أنه يجب أن نفهم من خلال “مبدأ المنفعة، المبدأ الذي يوافق أو لا يوافق على أيّ عمل كان، وفقاً لميله إلى زيادة أو الحدّ من سعادة الوطن الذي توجد مصالحه على المحكّ.” إنّ الفضيلة ركيزة بحدّ ذاتها، بل يجب عليها أن تكون كذلك. تمّت معالجة المشكلة الاجتماعية للتعايش بين عدد صغير من الأغنياء وعدد كبير من الفقراء، طالما أنّ الأمر يحقّق “أكبر قدر من الإفادة للعدد الأكبر من الناس”. بذل المجتمع كامل جهده لأكبر عدد من الناس، وكان يجب تقبّل أن تكون النتيجة غير مرضيّة، لسوء الحظّ، بالنسبة لأولئك الكثيرين الذين لم يكونوا على موعد مع السعادة.
في العام 1830، تمّ اقتراح صيغة جديدة، مواكبة للعصر، لإراحة ضمير العامّة من الفقر. إنها مرتبطة بأسماء المموّل دايفيد ريكاردو (1823-1722) والكاهن الأنغليكاني طوماس روبرت مالتوس (1834-1766): إن كان الفقراء فقراء، فذلك بسببهم – الأمر عائد لإنجابهم العديد من الأولاد. فعربدتهم المُفرطة حملتْهم على التكاثر حتى حدود الموارد المتوفّرة. وفقاً لعقيدة الكاهن مالتوس، بما أنّ سبب الفقر موجود في السرير، فالأغنياء غير مسؤولين عن ظهوره أو تراجعه.
وسط القرن التاسع عشر، اكتسبت صيغة جديدة من التنكّر نجاحاً كبيراً، خاصّة في الولايات المتحدة: “الداروينية الاجتماعية” المُرتبطة باسم هيربيرت سبنسر (1903-1820). فبالنسبة لهذا الأخير، سواء في الحياة الاقتصادية أو التطوّر البيولوجي، إنّ القاعدة العليا هي بقاء الأكثر جدارة على قيد الحياة، وهي عبارة يتمّ إسنادها خطأً إلى شارل داروين (1882-1822). إنّ التخلّص من الفقراء هو الوسيلة التي تلجأ إليها الطبيعة لتحسين العرق البشري. الأمر الذي يؤدّي إلى تقوية نوعية العائلة البشرية من خلال محو الضعفاء والمحرومين.
أحد أبرز الناطقين الأميركيين باسم الداروينية الاجتماعية كان جون روكفيلر، أوّل شخص في السلالة الذي أعلن في خطاب شهير: “لا يمكن الحصول على وردة من صنف “جمال أميركي” من حيث الجمال والرائحة التي تثير مشاعر من يتأمّلها، إلاّ من خلال التضحية بالبراعم الأولى التي تنمو حولها. الأمر نفسه يُطبَّق على الحياة الاقتصادية. ليس ذلك سوى تطبيق لقانون وضعته الطبيعة وقانون من عند الله.”
خلال القرن العشرين، اعتُبرت الداروينية الاجتماعية قاسية نوعاً ما: هبطت شعبيّتها، وإذا ما تمّ ذكرها فغالباً ما يكون للتنديد بها. خلفها تنكّر للفقر لا شكل له، مرتبط بالرؤساء كالفين كوليدج (1929-1923) وهيربيرت هوفر (1933-1929). بالنسبة لهؤلاء، إنّ أية مساعدة عامة للفقراء تشكّل حاجزاً بوجه فاعلية الاقتصاد. حتى أنّها لا تتماشى مع مشروع اقتصادي خدم بصورة جيّدة غالبية الناس. لا تزال الفكرة، التي تقول بأنه من المُسيء اقتصادياً مساعدة الفقراء، فكرة موجودة. وخلال السنوات الأخيرة، أصبح البحث عن الطريقة الأفضل، للتخلّص من أيّ تأنيب للضمير في ما يتعلّق بالفقراء، اهتماماً فلسفياً وأدبياً وخطابياً بالغ الأهمية. أضفْ إلى أنّها مشروع معدوم من أيّة مصلحة اقتصادية.
ضمن الطرق الأربع أو الخمس المعتمّدة للمحافظة على ضمير مرتاح حول الموضوع، الأولى ناتجة عن واقع أكيد: أكثريّة المبادرات التي يجب اتّخاذها لمصلحة الفقراء تتعلّق، بطريقة أو بأخرى، بالحكومة. يتمّ حينها الترويج بأنّ الحكومة غير كفوءة بطبيعتها، سوى في مجال تصميم – وتحرير الأسواق العامة- الأسلحة وإدارة البنتاغون. كونها غير مؤهّلة وغير فعّالة في الوقت نفسه، ليس بإمكاننا أن نطلب منها إنقاذ الفقراء: ستزيد الطين بلّة وتعرّضهم لمزيد من الخطر.
إننا نعيش في حقبة تتماشى فيها ادّعاءات عدم الكفاءة الحكومية مع الإدانة العامة للبيروقراطيين، باستثناء أولئك الذين يعملون دفاعاً عن الوطن. إنّ شكل التمييز الوحيد االمؤسّسات الحكومية به – أو مُشجّعاً، لمزيد من الدقة- في الولايات المتحدة، هو التمييز المتعلّق بالأشخاص الذين يعملون للحكومة الفيدرالية، خاصّة ضمن نطاق نشاطات الحماية الاجتماعية. هنالك تسلّط كبير من قبل المؤسّسات الحكومية، المليئة ببيروقراطيّي المؤسسات، لكنّ أولئك أناس جيّدون. وحدها البيروقراطية العامة والموظّفون هم السيّئون.
في الواقع، إنّ الولايات المتحدة تتمتّع بوظيفة عامة ذات نوعية استثنائية، يؤمّنها وكلاء موهوبون ومتفانون وشرفاء بمجملهم، قلّما يميلون إلى حمل المموّنين على زيادة تسعير فواتير مفاتيح ؟؟؟؟ واللّمبات الكهربائية وآلات تحضير القهوة ومقاعد الحمّامات. الغريب أنّه، عندما ارتُكبت أعمال حقيرة كهذه، حدث ذلك في البانتغون… لقد تمّ شبه إلغاء للفقر في أوساط الأشخاص المُسنّين، وجعل الحصول على العناية الصحية أمراً ديموقراطياً مُتاحاً للجميع، وكفل الحقوق المدنية للأقلّيات والعمل الجدّي لتأمين تساوي الفرص في مجال التعليم. هذا ما يجب اعتباره حصيلة مدهشة، خاصّة بالنسبة لأشخاص غير كفوئين وغير فعّالين. إذن لعلّه من الضروريّ أن نلاحظ أنّ التنديد الحالي، بأيّ عمل وإدارة حكومية، هو في الواقع أحد عناصر خطّة أوسع: رفض تحمّل أيّة مسؤولية تجاه الفقراء.
الطريقة الثانية التي تندرج ضمن هذا التقليد القديم المهمّ، تقتصر على الشرح بأنّ أيّ شكل من المساعدة العامة للفقراء هو خدمة سيئة جداً قد يؤدّونها لهم. فهي تدمّر معنويّاتهم وتُشغلهم عن وظيفة مدفوعة جيداً. إنّها تفرّق الأزواج، بما أنّه بإمكان الزوجات المطالبة بمساعدات اجتماعية لهنّ ولأولادهنّ، في حال وجدنَ أنفسهنّ دون زوج. ليس هنالك مطلقاً أيّ إثبات على أنّ هذه الأضرار أكبر من تلك التي قد يؤدّي إليها إلغاء المساعدات العامة. لكنه يتمّ باستمرار ترداد الحجّة الوحيدة التي تقول بأنّ المساعدات تُسيء بشكل خطير إلى المحرومين، والأخطر أنها تجد من يقتنع بها. لا شكّ أنّ تلك خرافاتنا الأكثر تأثيراً.
الطريقة الثالثة المُرتبطة بالسابقة، هي للتبرّؤ من وضع الفقراء: التأكيد على أنّ المساعدات العامة لها تأثير سلبيّ على الحضّ على العمل. فهي تؤمّن نقلاً لعائدات الناشطين إلى الخاملين وسواهم من الفاشلين، ومن هنا، تُوهن من عزم جهود أولئك الناشطين وتشجّع على فكرة بِطالة العاطلين عن العمل.إنّ الاقتصاد الذي يُسمّى باقتصاد العرض هو التعبير الحديث لهذه الفكرة.فهو يؤكّد على أنّ الأغنياء، في الولايات المتحدة، لا يعملون لأنّ عائداتهم المتوفّرة ضئيلة جداً. لذا، من خلال أخذ المال من الفقراء وإعطائه للأغنياء، نحرّك الجهود، وبالتالي الاقتصاد. من يصدّق بأنّ الكمّية الأكبر من الفقراء تفضّل المساعدة العامة على وظيفة جيّدة؟ أو بأنّ الكوادر العالية في الشركات الكبرى – الذين تحوّلوا اليوم إلى شخصيّات رمزيّة- لا يفعلون شيئاً بحجّة أنّهم لا يتقاضون أجوراً كافية؟ إنّه لاتّهام فضائحيّ مُوجَّه ضد مدير الشركة الأميركي الذي من الشائع أنه يعمل جاهداً.
الطريقة الرابعة لتفادي أيّ تأنيب للضمير هو إظهار التأثيرات السلبيّة المُفترضة على حرّية الفقراء في حال مصادرة مسؤولياتهم. الحرّية، هي حقّ إنفاق الكمّية الأكبر من المال على هواهم، وإنفاق الحكومة للكمّية الأصغر. هنا أيضاً، باستثناء ميزانيّة الدفاع الوطني، استعادة للتصريح النهائي للبروفيسور ميلتون فريدمان [1]، “يجب أن يكون للناس حقّ الاختيار”.
لا شكّ أنّ هذه أكثر الحجج شفافيّة لأنه لا يتمّ أبداً إرساء أية علاقة بين العائدات وحرية الفقراء. (يشكّل البروفيسور فريدمان مرة أخرى استثناءً لأنه، من خلال الضريبة على المردود السلبيّ، قد يضمن حدّاً أدنى من المردود العالميّ). سيؤكّد الجميع أنه لا توجد وسيلة أكثر حدّة من القمع، ولا تعبئة للفكر والجهد مدعومة أكثر من تلك التي يعيشها الإنسان الذي لا يملك قرشاً واحداً. نسمع كلاماً كثيراً عن التعدّيات على حرّية من هم أكثر يُسراً عندما يتم خفض عائداتهم بسبب الضرائب، لكننا لا نسمع أبداً عن الارتفاع المُذهل لحرّية الفقراء الذين لا يملكون سوى القليل من المال الشخصيّ لإنفاقه. مع ذلك، إنّ الحدود التي تفرضها الضريبة على حرّية الأغنياء ليست بالأمر المهمّ، مقارنةً بالحرّية الزائدة التي تُعطى للفقراء عندما يتمّ تأمين مردود لهم.
في النهاية، بعد فشل كلّ الوسائل الباقية، نلجأ إلى التنكّر النفسيّ. يقتصر الأمر على ميل نفسيّ مُشترك بيننا في نواحٍ متعدّدة. فهو يحملنا إلى تفادي التفكير بالموت. ويحمل العديد من الناس إلى تفادي التفكير بسباق التسلّح، وبالتالي إلى التسارع نحو إبادة مُحتملة للبشرية. يُعمل بطريقة التنكّر النفسيّ هذه تفادياً للتفكير بالفقراء، سواء كانوا في إيثيوبيا، في جنوب البرونكس أو في لوس أنجيلوس. غالباً ما يتمّ نصحنا بالتفكير بشيء جميل.
تلك هي الطرق الحديثة لتفادي الانشغال بمصير الفقراء. جميعها، باستثناء الأخيرة ربّما، تشهد على قدرة كبيرة على الابتكار في خطّ بينتام، مالتوس وسبنسر. إنّ الشفقة بالتنسيق مع جهود السلطة العامة، هي الأقلّ راحةً وملائمةً مع قواعد التصرّف والعمل في زمننا هذا. لكنّها تبقى الوحيدة التي تتناغم مع حياة مدنيّة فعليّة. ليس هنالك أيّ تناقض في ذلك. فالاستياء الاجتماعي والنتائج التي قد يؤدّي إليها ليست صادرة عن أشخاص راضين. وفقاً لقدرتنا على جعل الاستياء عالمياً بأكبر قدر ممكن، سنحافظ وندعم الراحة الاجتماعيّة والسياسيّة. أليس هذا ما يجب على المُحافظين السعي إليه قبل كلّ شيء؟
(نُشر هذا النصّ للمرة الأولى في عدد تشرين الثاني/نوفمبر 1985 في مجلة هاربرز).
——————————————————————————–
* رئيس مجلس إدارة منظمة “اتحاد رجال الاقتصاد للحدّ من الأسلحة”، مدير المشروع حول عدم المساواة في جامعة تكساس، بروفيسور في مدرسة ليندون جونسون للشؤون العامة في جامعة تكساس، في أوستن، مدير أبحاث في معهد ليفي للاقتصاد.