الأفكار الأميركية – الروسية بشأن الأسد والمرحلة الانتقالية
فيما كان المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان ديميستورا، يجول في عواصم الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية؛ سعياً وراء دعمٍ يساعده على تحقيق تقدّم في الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف التي تنطلق الأسبوع الجاري، بدأت تطفو على السطح ملامح تفاهم أميركي- روسي جرى التوصل إليه، كما يبدو، في زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، موسكو أواخر شهر مارس/ آذار الماضي.
ويبدو من المعطيات المتوفرة أنّ الجانب الأميركي بات أكثر استعدادًا لقبول الموقف الروسي الداعي إلى تجنّب تناول موضوع بشار الأسد، عند بحث المرحلة الانتقالية، والتركيز في تغيير الدستور، بما في ذلك صلاحيات الرئيس، وترك مصير الأسد للانتخابات. وهذا يعني عَدّ الأسد جزءاً من المرحلة الانتقالية، وأنّ له أن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها خلال ثمانية عشر شهراً من بدء العملية السياسية، ما دام “الشعب السوري سيقرّر مصيره”؛ وذلك في مقابل نزع سلطاته، وتحوّله إلى رئيسٍ بصلاحيات بروتوكولية. وتُعزز هذا الاعتقاد جملةٌ من المؤشرات، أبرزها تصريح الناطق باسم الخارجية الأميركية، مارك تونر، في 2 أبريل/ نيسان 2016؛ إذ قال إنّ الولايات المتحدة تتفق مع روسيا في أنّ “مصير الرئيس السوري بشار الأسد يجب أن يقرّره السوريون أنفسهم”، وهي اللازمة التي ما فتئت روسيا تكرّرها منذ بداية الأزمة، والتي تعني بها تمسكها ببقاء الأسد في أثناء المرحلة الانتقالية.
والسؤال الذي يبرز هنا: هل من الممكن أن يبقى الأسد من دون صلاحيات؟ وهل يمكن حصول مرحلة انتقالية بوجوده ووجود الأجهزة الأمنية والجيش معه كذلك
اتفاق كيري – بوتين
على الرغم من نفي الجانب الروسي أن تكون محادثات كيري في موسكو قد تطرّقت إلى مصير الرئيس الأسد، أو إلى ترتيبات المرحلة الانتقالية، مع اقتراب موعد استئناف مفاوضات جنيف، فإنه بدا واضحاً أنّ التركيز، بعد الاتفاق على تثبيت الهدنة، والاستمرار في تسديد الضربات لتنظيم الدولة كان منصبًّا على مصير الأسد الذي تذرّع الروس بأنّ إزاحته ستكون صعبةً، بسبب معارضة إيران واحتمال تفكك النظام برحيله..
وفي وقت غدا فيه الجانب الأميركي أقلّ تمسكاً بمطلب رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، مع استمرار تمسّك موسكو وطهران به، اقترح الروس أن يتمّ الإبقاء على الأسد، وحتى السماح له بالترشح للانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية المرحلة الانتقالية، في مقابل تعديل الدستور وتحويل نظام الحكم في سورية، من النظام الرئاسي المعمول به حالياً إلى النظام البرلماني، على نحوٍ يصبح فيه الرئيس منتخباً من البرلمان، بدلاً من الشعب، ويتمتع بصلاحيات بروتوكولية، في حين تحصل الحكومة التي سيجري تشكيلها على السلطات الحالية التي يحظى بها رئيس الجمهورية، بما في ذلك سيطرتها على الجيش والأمن. ويبدو أنّ الروس والأميركيين اتفقوا على أن يكون التركيز في المرحلة المقبلة في تعديل الدستور، أو إعادة كتابته، بدلاً من التركيز في موضوع الحكم/ الحكومة الانتقالية، والبحث في مستقبل الأسد، وأن يتمّ الانتهاء من ذلك في موعد أقصاه أربعة أشهر، أو كما قال كيري إنّ الدستور الجديد يجب أن يكون جاهزاً بحلول شهر أغسطس/ آب المقبل.
المشكلة في هذا الطرح الذي اقترحه الروس خلال زيارة كيري موسكو، والذي باشر الأميركيون ترويجه في عواصم عربية وإقليمية عديدة، بدعمٍ من دول عربية مهتمة بعدم تحقيق الثورة السورية أدنى أهدافها؛ بما في ذلك إزاحة الأسد، أنّ أيّ حكومة في سورية، مهما كان عنوانها أو اسمها أو تشكيلتها أو صلاحياتها، لن تستطيع أن تمارس مهمّاتها ما دام الأسد موجودًا، حتى لو كان ذلك بصفة رمزية في الحكم، أو داخل سورية؛ لأنّ سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية ليست سيطرةً قانونيةً أو دستوريةً تتأتي من كونه رئيساً للجمهورية وقائدًا عاماً للجيش والقوات المسلحة فحسب، بل لأنها تتعدّى ذلك إلى السيطرة الفعلية، فالجيش الذي قاتل شعبه والأجهزة الأمنية التي أذاقته ألوان العذاب هي من صُنع يد نظام الأسد، وبرعايته على امتداد نصف قرن. ومن ثمّ، فهي تأتمر بأمره، ويصعب تصوّر تلقيها أوامر من غيره، في ظلّ وجوده واستمراره. وتُعدّ حالة الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، مثالاً واضحاً دالّاً على طبيعة العلاقة الزبائنية والولاءات الشخصية التي تربط الرئيس أو الزعيم بالأجهزة الأمنية والعسكرية في النُظم الاستبدادية، فقد غادر صالح السلطة كلّيًا بموجب المبادرة الخليجية، وتخلّى عن صلاحياته لنائبه الذي غدا رئيساً مُوقّتًا، لكن قسماً كبيراً من الجيش والقوى الأمنية المختلفة مازال يدين له بالولاء الكامل ويقاتل تحت رايته، على الرغم من أنه لم يعُد، قانونياً ودستوريًا، رئيساً له. وإذا كانت هذه حال صالح، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الأسد، في حال بقائه في السلطة، وإن كان منزوع الصلاحيات. إنّ أيّ تغيير في الدستور في ظلّ وجود الديكتاتور هو “تغيير على الورق”؛ لأنّ سلطة الديكتاتور لا تنبع من الورق أو الصياغات، أو حتى من الدستور نفسه.
وفوق ذلك، جرت العادة أن يكون شخص الرئيس البروتوكولي (الشرفي) رمزاً لوحدة الوطن والشعب، وأن تتأتى رمزيته من إنجازاتٍ أدّاها لوطنه الذي يفخر به، ويوكل إليه مهمّة تمثيله. فهل يمكن أن يكون الأسد رمزًا لوحدة سورية؟ إنّ القول بإمكان ذلك يكون في حال عَدّ كلّ من الروس والأميركيين أنّ سقوط أكثر من مليون سوري بين قتيل وجريح ومفقود، وتشريد نصف السوريين، وتدمير البنية التحتية للبلد، وتحويلها إلى ساحةٍ تعيث فيها كلّ مليشيات الأرض فسادًا، إنجازات يستحقّ الأسد أن يُكافأ عليها بمنصب “رئيس شرفيّ”.
“داعش” يسيطر على عقل إدارة أوباما
يبدو واضحاً أنّ فكرة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تكاد تستحوذ استحواذاً مطلقاً على تفكير إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، واهتمامها بما يجري في سورية وعموم الإقليم. ومن ثمّ، هي ترى أنّ كلّ القضايا الأخرى لا تعدو أن تكون تفاصيل غير ذات شأن؛ ما يعني، وفق منطق واشنطن، أنّ على القوى المحلية والإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري تنحية خلافاتها “الصغيرة” جانباً، والتركيز في الهدف الرئيس، المتمثّل بهزيمة التنظيم، وحرمانه من أيّ ملاذ آمن في المنطقة.
من هذا الباب، وعلى الرغم من امتعاضها الناجم عن وقع المفاجأة، وجدت الولايات المتحدة في التدخل العسكري الروسي في سورية فرصةً للدفع في اتجاه ضمّ موسكو إلى جهد حربها ضدّ تنظيم الدولة؛ إذ رأت أنّ التدخل الروسي في سورية يمكن أن يكون مفيدًا في حال استهدافه لتنظيم الدولة، وهو أمر ما فتئ يُردّده مسؤولو إدارة أوباما، من جهة أنهم يريدون من روسيا أن تكفّ عن استهداف فصائل المعارضة السورية، وأن تركّز، بدلًا من ذلك، على ضرب داعش.
وفي سبيل إقناعها بتغيير مقاربتها في اتجاه القضاء على تنظيم الدولة، بدلًا من استهداف المعارضة السورية، كانت واشنطن مستعدةً للذهاب مع موسكو إلى أبعد حدّ ممكن، بما في ذلك القبول ببعض عناصر الموقف الروسي بشأن مصير بشار الأسد. ومن هذا المنطلق، وافقت واشنطن على الانخراط في المسار السياسي الذي اقترحته موسكو، بالتوازي مع تدخلها العسكري في سورية. فشاركت في مسيرة فيينا التي بدأت رباعية (روسيا – الولايات المتحدة – تركيا – السعودية) قبل أن تتوسع لتشمل 17 دولةً، ضمنها إيران، في إطار ما أصبحت تعرف بـ “مجموعة دعم سورية”، لتعود بعد ذلك، وتصبح ثنائيةً في ظل توجّه موسكو وواشنطن نحو التوصّل إلى تفاهماتٍ مشتركة بينهما حول الأزمة السورية.
أسفر مسار فيينا عن التوصّل إلى اتفاقٍ روسي – أميركي في المبدأ، عُرف بـ “اتفاق فيينا”، في 14 نوفمبر/ تشرين ثاني 2015، وقدّم خريطة طريق لحلّ الأزمة السورية، جرى تضمينها في قرارٍ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حمل الرقم 2254 في 18 ديسمبر/ كانون أول 2015، ونصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة شاملة ذات طابع غير طائفي، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات خلال 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة. وبعد إخفاق الجولة الأولى من مفاوضات “جنيف 3” التي انطلقت في 29 يناير/ كانون ثاني 2016، بسبب استمرار القصف الروسي، ومحاولة النظام وحلفائه استثمار المفاوضات غطاءً لتحقيق نتائج على الأرض، تمكّن الروس والأميركيون في 11 فبراير/ شباط 2016 من التوصل إلى اتفاقٍ لوقف “العمليات العدائية” في سورية، على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، بدأ تنفيذه في 27 فبراير/ شباط 2016، بعد تذليل آخر العقبات أمامه في اتصال هاتفي بين الرئيسين، بوتين وأوباما، في 22 فبراير/ شباط 2016.
وعلى الرغم من الخروق الكبيرة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، ظل الروس والأميركيون متمسكين باتفاق وقف إطلاق النار، بل صار الأميركيون يصرّون على هذا الاتفاق أكثر من أيّ وقت مضى، بعد أن تبينت لهم فوائده لإستراتيجيتهم الخاصة بالقضاء على داعش، وذلك على الرغم من معارضة النظام السوري الذي أراد، مع حصوله على شحنة قوّة بعد التدخل الروسي، أن يواصل القتال، كما قال رئيسه، حتى يستعيد كلّ الأراضي التي فقدها. وعلى الرغم من تحفّظ المعارضة التي وجدت أنّ وقف العمليات القتالية، قبل انطلاق المرحلة الانتقالية، يُضعف موقفَها ويُفقدها أدوات الضغط التي يمكن أن تدفع النظام إلى تقديم تنازلات.
تمثّل موقف الولايات المتحدة من الهدنة بأنها تفسح المجال أمام وقف القتال بين النظام والمعارضة، وتوجّه جهد الطرفين نحو القضاء على تنظيم الدولة، بمعزل عن المسار السياسي، وعن إمكان تحقيق تقدّم في مفاوضات جنيف لحلّ الأزمة السورية. فخلال الأسابيع الستة الماضية من الهدنة، تمكّنت قوات النظام التي سعت، مع حلفائها، إلى تحقيق انتصاراتٍ ذات قيمة معنوية تساعد على تأهيل رأس النظام السوري، وتحويله من قاتلٍ لشعبه إلى خصمٍ عنيد لتنظيم الدولة، وحليف في إطار الحرب على هذا التنظيم لاجتثاثه، من نقل جزء كبير من قواتها من الجبهات التي كانت تواجه فيها المعارضة المسلّحة، والحشد لاستعادة مدينة تدمر ذات الأهمية التاريخية والحضارية الكبيرة، كما تمكّنت قوات النظام من استعادة مدينة القريتين التي تقع على مسافة تبعد نحو 85 كيلومتراً في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة حمص. وقد شكّلت استعادة المدينتين ضربةً كبيرةً لتنظيم الدولة لاحتوائهما ثروات باطنيةً مهمّةً، فضلاً عن أنهما تشكلان معبراً مهمّاً بين معاقل التنظيم في شرق سورية (دير الزور) وشمالها الشرقي (الرقة) من جهة، وقواعده في منطقة القلمون جنوب غرب البلاد، من جهة أخرى. أمّا قوات المعارضة، فقد تمكّنت، بدعم تركي، من إلحاق بعض الهزائم بتنظيم الدولة في شمال شرق حلب؛ إذ استعادت قرية الراعي الإستراتيجية على الحدود مع تركيا، إلى جانب قرىً أخرى، قبل أن تفقدها مرّةً أخرى. وفي الوقت نفسه، كانت فصائل المعارضة في الجنوب تخوض معارك طاحنةً ضدّ فصيلين صغيرين قريبين من تنظيم الدولة في المناطق الواقعة بين درعا والقنيطرة؛ هما لواء شهداء اليرموك وحركة المثنى الإسلامية.
وهكذا بدت الإستراتيجية الأميركية كأنها تُحقق نتائج إيجابية على الأرض، في ضوء توقّف القوات الجوية الروسية عن استهداف فصائل المعارضة المسلّحة، وتركيزٍ أكثر لقوات النظام في مواجهة تنظيم الدولة. وقد دعت هذه النتائج كيري إلى زيارة موسكو للمرة الثانية خلال شهر، لتثبيت الهدنة الهشة بين النظام والمعارضة.
خلاصة
ليس من الممكن تخيّل الأسد، أو أيّ ديكتاتور آخر يسيطر بالقوة والولاءات غير الوطنية على أنواعها، رئيساً فخريّاً بلا صلاحيات، كما أنه يصعب تحريك المرحلة الانتقالية إلى الأمام، ما دام يحتفظ بصلاحياته؛ ذلك أنّ هذا الأمر يقتضي مغادرته. هذا فضلاً عن القضية الأخلاقية المتعلقة بالجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها ونظامه.
لا حلّ سياسيًّا في سورية، ولا استقرار فيها مادام بشار الأسد موجودًا في الحكم بأيّ صيغة كانتْ؛ لأنّ بقاءه واستمراره يعنيان أنّ سبب الأزمة مازال موجودًا، ومن ثمّ سيجد السوريون مبررًا قويًّا لمواصلة القتال حتى يغيب الأسد، أو يجري تغييبه، ولا شكّ في أنّ استمرار الأزمة واستمرار الاقتتال بين السوريين يعنيان أنّ تنظيم الدولة (أو ما يشبهه) لن يجد متسعاً للبقاء فحسب، بل للتمدد أيضاً.
المصدر: العربي الجديد