لماذا تنصـح أنقرة بـ"الخيار السـوري"؟
تشعر هناك، وأنت القادم من الشرق الأوسط الذي يضغط عليك كما صخرة “سيزيف”، أنك بحاجة إلى راحة أبدية. شيء ما بين راحة اليأس وراحة الموت. لكنك على شاطئ البوسفور، تعود قروناً إلى الوراء، وتستذكر كيف أن السلطان “عبدالحميد الثاني” رفض إعطاء فلسطين وطناً قومياً لليهود فخطط “تيودور هرتزل” لتفجير قصر يلدز بالزوارق المفخخة، ويغالبك الحنين إلى… أزمة الشرق الأوسط.
لنتذكر أن “دنيس روس”، الدبلوماسي الأميركي المخضرم، قال، ذات مرة، لوزير خارجية عربي: هل تتصوّر أن المنطقة تستطيع أن تعيش من دون أزمة بهذا الحجم؟
ما كان يقصد في ذلك؟ هل استوحى كلاماً لأستاذه “هنري كيسنجر” الذي طالما ركز على البُعد الميتافيزيقي في المنطقة ليقول إن الصراع هو بين نصف المطلق والنصف الآخر. في اسطنبول تسأل: لماذا نحن هكذا؟
تلتقي دبلوماسيين من جنسيات مختلفة. من الأفضل وأنت في هذه المدينة التي طالما تبدّل اسمها بتبدّل التاريخ أن تركز على الدبلوماسيين الأتراك الموجودين هنا إما للاستجمام، أو للاختلاط بالآراء الأخرى الآتية من كل حدب وصوب.
تفاجأ بأحدهم وهو يقول لك إن أزمة المنطقة الآن هي جزء من الأزمة الأميركية، فالتاريخ الأميركي، في مجمله، مع تجاوز سريع للعارض الفيتنامي، هو تاريخ التألق. هؤلاء الناس هبطوا على سطح القمر، وفرضوا حتى أنواع طعامهم على العالم. إنهم النموذج، ليسأل: حين تكون دولة كونية إلى هذا الحد، كيف لها أن تُدار – أيديولوجياً – من قِبَل أناس لا يرون البشرية أكثر من مسرح للدمى؟
آخرون يشاركون في الكلام: “كلنا الآن نعاني من العارض العراقي. تصوّر أن ثمّة معتقلين من حزب العمال الكردستاني اعترفوا بأن القوات الأميركية زوّدتهم بالسلاح. كيف نجد تفسيراً لهذا؟ وهل من مصلحة الولايات المتحدة أن تندلع الاضطرابات في تركيا؟”.
هذه المنطقة تحوّلت إلى غابة من الألغاز. في وزارة الخارجية التركية يتابعون تطوّرات الأوضاع في باكستان، وكان الرئيس “جورج دبليو بوش” قد قفز فوق إسلام آباد وأبرم اتفاقية نووية مع نيودلهي. إن أشياء خطيرة تحدث هناك، مع ما لذلك من تداعيات على سائر الخريطة الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط. يقول دبلوماسي تركي إنه اقترح على وزير الخارجية “عبدالله جول” أن ينصح نظيرته الأميركية “كوندوليزا رايس” بسحب مشروع الشرق الأوسط الكبير من التداول… ليضيف إن هذا المشروع الذي أطلق جزافاً، ومن دون إدراك دقيق للديناميات السوسيولوجية والتاريخية في المنطقة، يستخدم الآن كحجّة من قِبَل الجماعات الراديكالية من أجل التعبئة العقائدية للناس. المشروع يمتد، جغرافياً، من موريتانيا إلى باكستان، إذاً، لنلاحظ ما يحدث في هذه المنطقة. هل هي حرائق الغابات التي تحدث عنها الرئيس “رونالد ريجان” أم أنها الهزّات الأيديولوجية التي لها مفاعيلها المستقبلية الكارثية.
يسخر الدبلوماسيون الأتراك مما يقال عن أن الرئيس “بوش”، باحتلاله العراق، قد نقل الحرب إلى مكان آخر بعيد عن بلاده بعدما استهدفت نيويورك وواشنطن. يسأل أحدهم: هل هذه هي أميركا أم زيمبابوي؟
إنها أميركا بإمكاناتها الهائلة تنقل الحرب من داخلها إلى العراق. هذا قد يصحّ بـ”أرييل شارون” لا برئيس أميركا يهزّ العالم بحركة من إصبعه. يعترف الدبلوماسيون الأتراك بأننا كلنا في مأزق. ليس هناك من مشروع إقليمي لضبط الوضع، وهم يستغربون كيف أن هذا لم يحصل قبلاً، كما أنه لا وجود لمشروع دولي. إذاً، المنطقة تدور على نفسها عشوائياً.
ثمة كلام واضح بأنّ أنقرة سعت للتوسط بين دمشق وتل آبيب. هذه المرّة حديث عن الإعياء الاستراتيجي، والأيديولوجي، الذي تعاني منه الدولة العبرية، والتقرير الذي وضعه مراقب الدولة حول حرب لبنان يعكس مدى الاضطراب في العقل السياسي، وفي العقل العسكري، الإسرائيلي. إسرائيل، في نظرهم، أصبحت هكذا. جبهات مفتوحة. وهذه مسألة لا تستطيع أن تتحمّلها دولة كبرى طوال تلك العقود، فكيف أن دولة مهما انتفخت تكنولوجياً، تظل محدودة ديموغرافياً وجغرافيا؟
بشكل عام، في نظر أنقرة، أن السلام بين سوريا وإسرائيل يضع المنطقة على خط جديد. الأميركيون يدركون ذلك ويتجاهلون. يريدون من دمشق تغييراً دراماتيكياً في سياساتها. هذه مسألة معقدة للغاية، بل ومستحيلة للغاية. الرئيس “بوش” يطلب من سوريا أن تكون جزءاً من السياق الاستراتيجي العام في المنطقة. هذا يفترض أن يحدث من دون مقابل. يقول أحد الدبلوماسيين: “بين الحين والآخر قد يكون من المجدي تذكير الأميركيين بأن مرتفعات الجولان السورية محتلة، وبأن “مناحيم بيغن” استصدر في 14 ديسمبر 1981 تشريعاً من الكنيست بإلحاق تلك المرتفعات بالأراضي الإسرائيلية. ولقد سألنا السوريون، خلال المساعي عما فعله الأميركيون لحلّ هذه المشكلة. لا شيء…”.
اللافت هو ما يراه الدبلوماسيون الأتراك في مؤتمر السلام الذي دعا إليه الرئيس “بوش” في الخريف. يسألون: “أين سوريا في هذا؟ نحن لسنا محامي بشار الأسد ونظامه، لكن المنطقة تعبت كثيراً من الرؤية المجتزأة، كما من الخطوات المجتزأة”. يا للمصادفة أن يستعيدوا كلاماً أخيراً لـ”دنيس روس” نفسه في النشرة نصف الشهرية “ذي نيو ريبايليك”:”إن إطلاق عملية تفاوضية ذات صدقية أمر، وحصول حدث رمزي مثل مؤتمر دولي للسلام لا تلقى فيه سوى خطب شديدة اللهجة تكشف عن وهن آمال التسوية ولا ينطوي على أي متابعة عملية، أمر آخر”.
أحدهم يستخدم تعبير “الكرنفال الدبلوماسي”، ليضيف إن الولايات المتحدة ليست الآن في الوضع الذي تستطيع معه أن تفر
ض اتجاهاً تفاوضياً يوصل فعلاً إلى الحلّ النهائي، كما أن “ايهود أولمرت” يترنّح، فيما التصدّع الفلسطيني يزداد حدة، وتتكرّس عوامل الانفصال.
مرّة أخرى، ينصحون بـ”الخيار السوري” الذي على علاقة بالحالة الفلسطينية، كما بالحالة اللبنانية، ويقولون “إننا نتكلم استراتيجياً لأننا نرى الأمور هنا بوضوح. قد تكون الأكثر إدراكاً في المنطقة للواقع الإسرائيلي. صحيح أن الجولان يتمتع بموقع بالغ الأهمية، لكن السلام، بالنسبة إلى الدولة العبرية كما بالنسبة إلى الدول العربية، هو أهم من أي شيء آخر”.
هل سيستكمل “عبدالله جول”، وزير الخارجية، مساعيه؟ اللقاءات كانت قبل الانتخابات التشريعية، ويقولون لك إن تركيا لا تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي حيال ما يحدث. يسألون: لمصلحة مَن أن تتدهور الأمور بين سوريا وإسرائيل نحو الحرب؟
إنهم يعتبرون أن واشنطن لا تستطيع أن تقوم بأي مبادرة في الوقت الحاضر “… ولكن ألسنا معنيين بمستقبل المنطقة ورخائها واستقرارها أكثر من… السيد ديك تشيني؟”.
رغم أن انتخابات البرلمان السادس عشر من يوليو المنصرم، استحوذت على اهتمام معظم الإعلاميين في تركيا، فقد لوحظ أن مقالات كثيرة انطوت على مخاوف من تطورات محتملة في الشرق الأوسط، فيما يعتبر الدبلوماسيون أن الفوضى تنتج الفوضى، وهذه مسألة تفترض تفعيل عمليات التنسيق بين بلدان الشرق الأوسط مع استعداد أنقرة للاضطلاع بدور فاعل، ولكن من دون أن يعني هذا “أن نصبح جزءاً من أزمة المنطقة وإن كنا نتأثر بها”.
في رأي الدبلوماسيين أن إدارة الرئيس “جورج دبليو بوش” منهكة في الملف العراقي، وستبقى كذلك، وهو ما يقتضي أن يصنع أبناء المنطقة شيئاً ما. أحدهم يطرح سؤال: هل هذا مسموح حقاً؟.
الحديث التركي عن إسرائيل لم يعد كما في السابق. كلام كثير عن المأزق وأبعاده، مع التأكيد على أن الدولة العبرية يجب أن تعمل من أجل السلام كأولوية استراتيجية لأن تفاعلات المنطقة، في ظل التوترات الأيديولوجية الراهنة، لا بد أن تنعكس عليها بصورة خطيرة، حتى وإن كان هناك مفكرون يهود بدأوا يطرحون الأسئلة حول ما ذا كانت إسرائيل، ببنيتها اليهودية تستطيع أن تستمر.
إنهم يُسدون النصح إلى الإسرائيليين ويقولون، في ضوء ما حدث في لبنان، إن الدبابات نفسها تتحطم فكيف بالبشر…