هل انتهت الديموقراطية مع سقوط إيديولوجية الديموقراطية للمحافظين الجدد؟
ومثلما كان الخروج عن اليساريات أنذاك يُعهَّر ويُجرَّم، كان مجرد الدعوة إلى التعقل في الدفع باتجاه تحويل الديموقراطية إلى “إيديولوجية الديموقراطية”، يتقلى نفس الاتهامات مضافاً لها اتهامات العمالة؛ وهي نفس اتهامات العمالة التي رافقت “إيديولوجية اليساريات”، مع الفارق أن تلك العمالات كانت منسوبة إلى الغرب أو الإمبريالية أو البرجوازية … في النموذج اليساري، فيما نُسبت إلى الأنظمة الديكتاتورية أو المخابراتية، أو إلى تهمة الانتهازية أو الوصولية في النموذج الديموقراطي.
وكان الطريف أن أغلب الذين رافقوا ونظروا للإيديولوجية الديموقراطية هم أنفسهم الذين كانوا يعتبرونها هرطقة برجوازية صغيرة عندما كانوا يساريين. وهم أنفسهم الذين نقلوا نفس مصطلحات الاتهام إلى الجناح الديموقراطي من طير الإيديولوجية الذي لا يزال يحوم حول المنطقة العربية بالأسلوب اليوتوبي الذي يتحدث عنه كارل مانهايم عندما يؤكد على أن كل إيديولوجية هي مشروع مدينة فاضلة لا تتحقق ، وهي أقرب إلى الإيديولوجية كقناع يخفي الوقائع، تحت ستار من الوعي المزيف.
اللافت أن المنطقة العربية لا تزال تتحرك كـ (مفعول به) على المستوى المعرفي؛ فالأفكار التي تسودها هي على الأغلب الأفكار التي لا تني تأتي انعكاساً عن عصر أو مرحلةٍ أيديولوجية تسم وعي وسلوك (الكبار) في العالم. صحيح أنها تدغدغ الموجود والمُعانى منه والمأمول … لدى نخب هذه المنطقة، إلا أنها لا يمكن إلا أن توصف بأنها رجع صدى لوقائع الآخرين، فالمدّ اليساري اليوتوبي في القرن الماضي انعكس دوغمائيات(معرفة يقينية لا تقبل التغيير أو المراجعة) يسارية في منطقتنا العربية.
وارتبطت هذه الدوغمائيات بحاجات الفقراء والحلم الذي اجتاح الأرياف والأقليات لوأد الصراع الطبقي في مهده والولوج إلى عالم الفردوس العدالي الذي يطوي صفحة الجوع والقهر الاجتماعي مشفوعاً برؤية اختزالية تختزل كل المشكلات الإنسانية بالبعد الاقتصادي، تماماً كما هو حال أغلب النظريات التي رافقت البعد النقدي الذي جسدته فلسفة عصر الأنوار والتي اختزلت الحياة والمعرفة بثنائية (الظاهر/ الباطن) وأنهت المتنوع لحساب الواحد وأراحت ضمير الإنسان الواعي بتشريط معرفي ربط كل الموجود بسبب وحيد القضاء عليه أو معرفته أو السيطرة على أبعاده سرعان ما يلج بالبشر إلى عالم فردوسي ، فيما المعرفة الاختزالية الواحدية هي (الخلاص) البشري ، حيث أن إيديولوجيا الخلاص هي الإيديولوجية التي تتحكم بالوعي البشري النمطي الدوغمائي سواء أكان دينيا أو ماركسيا … أو حتى ديموقراطياً.
المفعول به الخلاصي الثاني أتى مع اندياح إيديولوجيا الديموقراطية، ولكن هذه المرة بدلا من أن تأتي الإيديولوجية الخلاصي من الشمال والشرق فإنها أتت من الغرب.
إيديولوجيا التنميط الأوروبي وتوحيد الهوية العالمية للدول عبر الديموقراطية، أنتجت دعاوى ديموقراطية خجولة في العالم وانعكست في الثمانينيات والتسعينيات إيديولوجيات انعكاسية في عالمنا العربي تتخذها وسيلة لإيجاد فرصة للبعض لولوج السلطة، فيما تدغدغ الموجود والمُعانى منه والمأمول، وتستند إلى معاناة الوعي العربي السائد من التسلط والبيروقراطية وضعف الحريات العامة والفساد وضعف الفرص الاقتصادية وارتباطها بالصعود في سلم هرم الدولة التي باتت تجسد الاقتصاد – السياسي بشكل أفرط في ربط السياسة بالمصلحة الاقتصادية اختزلها لسبب أو لأخر بالدولة المركزية التي نشأت على أساس تشكل قسري للعصرنة في تلك البلدان، تتجاوز التخلف الاقتصادي والاجتماعي والجهل والأمية … نحو جامع مانع هو الدولة.
لكن مع سقوط الاتحاد السوفياتي انبرى لفيف (أيضاً من اليسار التروتسكي الأمريكي) لإنتاج نظريات تتصل بالمشروع الديموقراطي الذي نظَّر له الفيلسوف الأمريكي- الألماني (ليو شتراوس) وتلميذه (آلان بلوم) كبديل من الليبرالية المرزولة ولتوحيد الهوية العالمية بتعميم الدستور الأمريكي الذي يسهل سيطرة النخب (إي الفلاسفة وهم هنا كما نظّر لهم ليو شتراوس نخب المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بسيطرتهم على الحكم في الولايات المتحدة) على العالم بأسره. فليو شتراوس كان المنظر الأهم لضرورة استلام الفلاسفة (أي هم) الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم (عبرالديموقراطية) بديلا من الشعوب غير الذكية؛ حيث كتب:” ” ليست الفضيلة الأخلاقية تطبيقاً عند الرجل الذكي حقاً، أو الفيلسوف. فالفضيلة الأخلاقية ليس لها وجود إلا في الرأي الشعبي حيث يكون هدفها السيطرة على غالبية الناس غير الأذكياء”.
كان احتقار الرهوط والناس العاديين هو دين ودينونة الفلاسفة القادمين من الغرب هذه المرة لتعميم ” إيديولوجية الديموقراطية” وليكون عالمنا العربي مسرحاً للوثة مشابهة فكريا للوثةِ اليسار الإيديولوجي مفعولاً بنا مرة ثانية.
مرة اخرى الفلاسفة يريدون أن يحكموا: في المرة الأولى كانوا ماركسيين وفي المرة الثانية ماركسيين تروتسكيين أنقلبوا بالثورة المستمرة إلى ثورة مستمرة إيديولوجية ديموقراطية. وكان على منطقتنا أن تدفع للمرة الثانية ثمناً غالياً لإيديولوجيات (الكبار).
وكانت نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما وصراع الحضارات لصموئيل هانتغتنون هي البواكير الأكثر رصانة! والأقل توظيفاً على المستوى السياسي لإيديولوجية الديموقراطية، إلا أن نفس المجموعة تقريبا ولكن من الشق الأكثر شبقاً لولوج عالم السياسة والمصالح الاقتصادية كان الأسرع في محاولة الانقضاض على إحدى الحاملتين السياسيتين في الولايات المتحدة الأمريكية (الحزب الديموقراطي أولا ثم بعد فشلهم مع كلينتون انتقلوا إلى الحزب الجمهوري) وذلك لتمرير مشروعهم، واللافت أن جميعهم من تلامذة ليو شتراوس وألان بلوم من أمثال دوغلاس ج. فيث وريتشارد بيرل ومايكل ليدن وجون بوليتون و رامسفيلد وصولا إلى ديك تشيني كملحق أو نصير للمجموعةالتي انتظمت في مؤسسة هيرتيج فاونديشن (HF) وعبرت في أكثر من دورية كالكومنتري عن أفكارها بوضوح، حيث كتب دوغلاس فيث في 24 تشرين الثاني 2003 مقالا في HF يقول فيه:
” إن زمالتي في “هيرتياج فوندايشن” تعود إلى بداية عام 1977، أي قبل حوالي ست وعشرين سنة، عندما كان مركزها في “ستانتون بارك” الطابق الخامس، القطاع /ج/ في “نورث إيست”. وفي أثناء ذلك، كنا نحن المحافظين الجدد، وبما أنني كنت عضواً جديداً، ومع باقي الشخصيات التي كنا نطلق عليها اسم المحافظين القدامى، قد كوّنّا فكرة شائعة تعتمد على ثلاث ركائز:
1- دعم الديمقراطيات التي تعاني حصاراً وحالةً من الاختناق الحاد.
2- محاصرة وتطويق الإمبراطورية السوفييتية.
3- توطيد وتقوية السياسة الخارجية الأمريكية التي ترعى السلام وتسانده.
وقد ساعدت /HF/ كثيراً في تشكيل ما يسمى “اتحاد المحافظين الجدد” والذي يتألف من رجالٍ أمثالنا بدؤوا حياتهم السياسية كديمقراطيين وكأمثال رجال ينتمون إلى الطراز القديم من المحافظين. إن هذا الاتحاد يضم نماذج تمتاز بعمق التفكير وتعتمد في سياستها على مبادئ فلسفية بحتة، ولكن هذا الاتحاد لم يتصف بالانتهازية ولم يكن انتهازياً أو تكتيكياً ولم يحظ بانسجام وتوافق سياسي ذي عُرى وثيقة.
وقد أدركت تلك العصبة أن الحرب الباردة لم تكن تمريناً لموازين القوى بين قوتين عظميين، ولم تكن اشتباكاً بالأيدي لقردين يتسابقان للوصول إلى “دواسة الطواحين”. ولكن تلك الحرب الباردة كانت صراعاً نبيلاً بين ديمقراطية الغرب المتحررة وبين استبدادية النظام الشيوعي السوفييتي.، و هذا الأمر قد مكّن شريحة المحافظين من أن تحتل مكاناً حيوياً في الطيف السياسي الأمريكي، وجعل منها شريحة تمتاز بالفكر الخلاق والذكاء المتلألئ والطموح الجاد، وقادرة على تحويل ونقل مقاليد الإدارة الأمريكية من أيدي الرجعيين المملين إلى أيدي الشبّان اليافعين القادرين على الخلق والإبداع.”
مجموعة تصف نفسها بالذكية والتقدمية والآخرون رجعيون مملون، وهم عميقو التفكير والباقون سطحيون… تبدو أنموذجاً للأنا المتضخمة لدى بعض أغلب الفلاسفة أو العاملين في الحقل المعرفي- السياسي، ولا يختلفون عما نعرفهم في بلداننا العربية، سرعان ما تجد أفكارهم صدى لدى الأخيرين فنراهم يتجاوبون مع المدّ الإيديولوجي ويعرّبونه ويوطنونه، ولا يريدون أن يستفيدوا من التجربة الإيديولوجية الماركسية التي اغتربت وسقطت معهم وعلى أيديهم وأفكارهم نفسها تقريبا المُعرّبة والموطنة تارة باسم الطريق العربي إلى الاشتراكية وتارة باسم الماركسية العربية و و و وهي في التحليل الأخير مجرد تحويمات في فلك المشروع الإيديولوجي لعصر أو مرحلة الكبار.
المعادلة هذه تلخصها فكرة أن الكبير أو المنتصر يُنمط الصغير على هويته ، مستفيداً أو برجع الصدى للاحتياجات الواقعية الإنسانية والاجتماعية المتوافرة لدى كل تجمع بشري ينقصه شيء وتلزمه أشياء. ففيما كانت الاستجابة للماركسية أو على الأقل للاشتراكية تفرضها الاحتياجات الاقتصادية للبشر وتدعمها حالة العوز والفقر… فإن الاستجابة لدعاوى إيديولوجية الديموقراطية قد وجد مستلزمات استجابات البعض لها وترويجها إيديولوجيا وسياسياً بخلط مفرط بين الحريات العامة وتداول السلطة.
كان اللافت أن هذه المجموعة من المحافظين الجدد كانت تضفي صورة نمطية إيديولوجياً عن الديموقراطية بقول فيث : إن الشعور بالتفاؤل هو أمر واجب لأن الديمقراطية ستثبت نفسها يوماً بعد يوم بأنها زهرة دائمة التفتح وأنها وردة لا يمكن أن تعبث بها الريح كيفما تشاء. وأن الأنظمة الاستبدادية التي بنت دولتها على الممارسات الدكتاتورية لن تدوم طويلاً، وستحتاج هذه الدول إلى أكثر من ثلاثين عاماً حتى تصبح قادرة على تأسيس قواعد الشرعية والديمقراطية، ولكن لا أحد من هذه الأنظمة قادر على المخاطرة والشروع ببدء الانتخابات الحرة”.إلا أن هذه الشاعرية الفكرية لم تكن إلا غطاء لم يلبث أقل المحافظين الجدد مداورة إلا أن كشف خلفياته الحقيقية لإرساء مبدأ السيطرة من قبل حكام الولايات المتحدة الأمريكية من الفلاسفة على الشعوب غير الذكية (من أمثال شعوبنا حيث تعبير غير ذكية هو النسخة الديبلوماسية لتعبير الغبية) والتي لا تصلح لأن تحكم نفسها كما أعلن عن ذلك زلمان خليل زادة الإيراني الأصل وفؤاد عجمي (كتب مقلاً في الفورن أفيرز بهذا الخصوص) اللبناني الأصل وهو أستاذ كرسي مجيد خضوري ومدير برنامج دراسات الشرق الأوسط بكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنزJohn Hopkins University ، (باعتبارهما الأكثر دراية بواقع ساحة عمليات إيديولوجية الديموقراطية:العالمين الإسلامي والعربي، يؤيدهما برنارد لويس)، عندما اعتبرا أن هذه الساحة لا تصلح أصلا لقيامة الدولة فيها لأنها مؤلفة أصلا من أديان وطوائف ومجموعات أثنية وأن قيامة الدولة المركزية في أغلبها قد اتسم بالطغيان مما أقام دولاً بالقوة وأن الضرورة تقتضي إحالتها إلى وضعيتها الأولى أي العشواء Chaos ، ونلاحظ أنهما استخدما هذه المفردة بديلا من Disorder التي تعني الفوضى لوضع كان أصلا منظماً، فالنظرية تقوم على إعادة العشواء إلى العشواء أي إلى نموذجه الأول وهذا لا يكون إلا بالديموقراطية(وهي كما أسلفنا ليست فضيلة كما أعلن عن ذلك أستاذهما ليوشتراوس بل وسيلة للسيطرة على الأغبياء) حيث كل من أفراد الشعوب (غير الذكي) سينتخب ممثله من طائفته وعشيرته وقبيلته ودينه ومذهبه ومجموعته الإثنيّة ما سيعيد التشظي الداخلي إلى واقعه الأول ويطوي صفحة من صفحات تجميع الشظايا عبر الدولة الطاغية، ويهيء لنموذج من إقامة المرجعية الخارجية الأمريكية حصرا في ساحة مفتوحة ديموقراطياً للمجموعات المتشظية اجتماعيا وسياسياً يجمع عشوائيتها نظام لدولة غير مركزية تسهل حكم الفلاسفة الأمريكيين للعالم العربي والإسلامي وهو مصدر الإرهاب، حيث الأخير هو محور الحرب العالمية الرابعة لأمريكا والعالم المتحضر وفقاً لإيديولوجية الفلاسفة الديموقراطيين … الجدد.
كعادة أية فكرة مهما رآها البعض برّاقة وملبية لحاجات أساسية أو أخلاقية سرعان ما تهوي على مذبح الواقع ، فشجرة الحياة خضراء لكن النظرية رمادية تقع بين أبيضها وأسود الواقع باعتباره ليس هو المرغوب والأقصى من طموحات البشر والنخب… الذكية.