ماذا عن إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
إن مفهوم الديمقراطية يستند بالدرجة الأولى لمفهوم حكم الأغلبية، المسألة إذا ليست رصدا لمجموعة سلوكيات ومواقف لهذا النظام أو ذاك، يتم على أساسها الحديث عن الانتقال من نظام الحكم التسلطي إلى نظام ليبرالي. وإذا أراد الباحثون التعامل مع التعددية الحزبية أو هوامش حرية الصحافة التي تتسع وتضيق وفق رغبة الحاكم باعتبار أنها مؤشرات لظهور نهج ديمقراطي في الشرق الأوسط. فلابد من القول إن هذا المعيار يفتقد للدقة والرؤية العلمية للأدوات النهج الديمقراطي.
ولعل ملاحظة د.فلاديمير أحمدوف الباحث في معهد الاستشراق حول تدخل الجيش في السياسية تأتى في محلها، ولكن من الخطأ اعتبار ذلك ناجما عن تفاقم الخلاف الطائفي، لأن تنامي ظاهرة المنطق الطائفي بدأت في الستينيات من القرن الماضي، بعد أن تربع الجيش على قمة هرم السلطة في عدد من بلدان المنطقة. بل أن تفاقم الصراعات التي تبدو في ظاهرها طائفية، تسبب في عدد من هذه البلدان لانهيار دور وتواجد المؤسسة العسكرية بعد أن سعت بعض القوى السياسية لشقها بالمنطق الطائفي، إلا أن نجاح دور المؤسسة في الحياة السياسية لا يعود فقط لأنها تمتلك أدوات القوة، وإنما لأنها الإطار الأكثر تنظيما في المجتمع. والذي يعمل بآليات تشكل النقيض للمنهج الديمقراطي في الحياة السياسية.
أما ربط تباطؤ التحولات الديمقراطية بالتقاليد الثقافية التاريخية، فهو ربط بعيد عن منهج البحث العلمي، الذي يرصد ويقيم التغييرات الجذرية الجارية في بقية بلدان العالم. إن انتقال المجتمعات البشرية من مرحلة الحكم الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي ارتبط بالتحولات الاقتصادية التي جرت في هذه المجتمعات، وهو ما لم يحدث في بلدان الشرق الأوسط التي مازالت تعيش في ظل أنظمة ذات أنماط اقتصادية متعددة ومتخلفة، بسبب احتياج القطب المسيطر اقتصاديا في المجتمع الدولي لهذه الدول كمصادر للمواد الخام والطاقة وكأسواق لمنتجات هذا القطب، ما يعنى بالضرورة عدم السماح لها بالانتقال إلى مراحل الإنتاج والتصنيع، لأنه يمكن أن يوفر لها المقدمات اللازمة لتحسين مواقعها في تقسيم العمل الدولي ومن ثمة تحقيق الاستقلال الاقتصادي.
لذلك يمكن القول إن فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير كان لعدة أسباب:
أولها :أن تطبيق العديد من بنود هذا المشروع سيضعف وربما يقضى على الأنظمة الحاكمة الحالية وسينهى حقها المطلق في السيطرة على مقدرات شعوبها، وهو ما يتعارض مع مصلحة الدعاة لهذا المشروع.
ثانيا:سينتقل بالقدرات الحضارية و العلمية لشعوب المنطقة وسيمكنها من تحسين ظروفها في تقسيم العمل الدولي، وهو أيضا يهدد مصالح أصحاب المشروع.
في نفس الوقت لم يعد الوضع الراهن داخل هذه الأسواق يحقق العائدات المطلوبة لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الكبير بسبب اعتماد التوازنات السياسية والسلطة على حالة التخلف والأمية المنتشرة التي تمكنها من السيطرة على ثروات ومقدرات بلدان المنطقة باعتبار أن السلع والمنتجات الحديثة أصبحت تتطلب تطور مستوى الوعي السياسي والاقتصادي والعلمي لدى مختلف قطاعات المجتمع.
وقد دفع ذلك أصحاب مشروع الشرق الأوسط الكبير لطرح تجربة جديدة في العراق، وهى التقسيم إلى دويلات، يسهل السيطرة عليها مهما تطور وعي قطاعات المجتمع، نظرا لأنها لن تمتلك القوة السكانية والاقتصادية التي تمكنها من تأسيس عملاق إقليمي قادر على التمرد على الإرادة الأمريكية.
ويجب أن ينتبه الباحثون الروس إلى انه لا توجد في حركة التاريخ ثورات برتقالية ومتظاهرون يلقون الورود على قوات الأمن. إن معادلة تداول السلطة تتم وفق ميزان القوى السياسية في المجتمع.
ولابد من الاعتراف بأنه لا يوجد تداول سلمي للسلطة إلا في البلدان التي ترسخت فيها أنظمة السوق الحر، وهو في حقيقته ليس تداول للسلطة، وإنما هو تباين في الخطط التكتيكية للقوة المسيطرة على هذه البلدان لتحقيق مصالح النظام المسيطر على مقاليد السلطة. ولعل الفارق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة يعتبر مثال على ذلك.
فكل من الجمهوريين والديمقراطيين قام بقصف العراق، بل أن موسكو وقعت اتفاقات تقليص الأسلحة الإستراتيجية مع حكومات الجمهوريين الذين يمثلون مصالح احتكارات الأسلحة.
أما فكرة نبذ الحلول الثورية واللجوء للإصلاحية في الشرق الأوسط الملتهب فتبدو فكرة وردية، ليس لأن الثورية سيئة أو أن الإصلاحية فاشلة. وإنما لأن تدهور الأوضاع في هذه البلدان والذي اعتماد على الحكم الشمولي المطلق الصلاحية لسنوات طويلة لابد وأن يؤدى لانفجار هذه المجتمع.
إن الإخلال بالتوازن الاجتماعي والاقتصادي المفرط لحساب السلطة تسبب خلال السنوات الماضية في تنامي ظاهرة هجرة العقول والشباب بشكل كبير. وبعد أن فشل حل الهجرة في تحسين أوضاع قطاعات واسعة من السكان. بدأ المشروع الديني يشق طريقه كتعبير عن حالة الرفض الشعبي للظلم الاجتماعي والفساد، باعتبار أنه الأقرب لأغلبية قطاعات المجتمع ولأنه يقدم الأمل لأنصاره على كل الأحوال. ويجب القول إن النزعات المغامرة والمتطرفة لهذا المشروع خرجت به عن المسار المطلوب في أن يكون بديلا للمشروع السلطوي الراهن، الذي يعانى من معارضة قطاعات واسعة في المجتمعات. وبالتالي أصبح المشروع الديني مجرد حالة تمرد لا تقدم حلول واقعية لأنصاره،وفى نفس الوقت أصبح يشكل خطرا على النظام العالمي.
إن واقع مجتمعات الشرق الأوسط ليس لغزا، وإنما حالة من الاستغلال المضاعف الذي تعانى منه أغلبية قطاعات هذه المجتمعات. وتعتبر الديمقراطية وحرية الرأي السبيل لتحريك هذه الجموع لإصلاح أوضاعها. وتنذر مشاعر ومواقف هذا الجموع بالخطر ليس فقط على النظام الديكتاتوري الراهن، وإنما أيضا على المشروع الأمريكي لتطوير أسواق منتجاتها في الشرق الأوسط.