مَنْ هو الطّرف المسؤول في الحروب القائِمة اليوم؟
في فيلم “حياة بريان” للمجموعة البريطانية للكوميديا السيريالية ‘مونتي بايثون’ (Monty Python)، يوجد هناك مشهد تتشاجَر فيه الشخصيات فيما بينها حول جماعات ثورية مُختلفة: جبهة الشعب اليهودي، وجبهة الشعب في اليهودية، وجبهة الشعب اليهودي الشعبيه، التي كانت جميعها تقاتل الرومان. ولكن، وكما يبدو، كان غَضَب كل واحدة من هذه الجماعات على الجماعات الأخرى، يفوق غَضبهم على الرومان أنفسهم.
إنه مشهد يدعو للضحك، وبإمكان أيّ شخص أَمضى بعض الوقت في الأحزاب السياسية الطلّابية التعرُّف عليه لا مَحالة. ولا بُدَّ لي من الإشارة إلى أني تذكرت هذا المشهد مرة أخرى الأسبوع المُنقضي، على إثر نَشر أحدث تقرير للأمم المتحدة بشأن جرائم الحَرب في سوريا.
أنا هنا لَسْتُ بِمَعرض تقويض الطبيعة المُرَوِّعة للصراع الطويل في سوريا بأي شكل من الأشكال، لكن التحليل الذي قدَّمه التقرير حول المجموعات المُختلفة المتواجدة في مدينة واحدة (هي دوما) – من جيش الإسلام، وأحرار الشام، وفيالق الرحمن وحتى هيئة تحرير الشام، ذكَّرَتني بِمَشهد جَبهَة الشعب اليهودي في الفيلم.
في بعض الأحيان، تكون هذه الجماعات الُمسَلَّحة مُتحالِفة فيما بينها، لكنها تعود وتتقاتل في أحيان أخرى. وجميع هذه الجماعات تقاتل الحكومة السورية، التي إرتكبت قواتها – بِحَسب استنتاجات مُحَقّقي الأمم المُتحدة – العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
بدورها، إرتكبت هذه الجماعات أفعالاً لا تقل بشاعة، حيث يَصِف تقرير المجموعة الأمَمية الأخير كيفية “قيام الجماعات المسلَّحة بانتظام باعتقال المَدنيين بشكل تَعَسُّفي وتعذيبهم في دوما، بما في ذلك الأفراد المُنتمين إلى أقليات دينية، وارتكابها، وبشكل متكرر، جرائم حَرْب تتمثل بالمعاملة الوحشية والتعذيب، وانتهاك الكرامة الشخصية.
صراعات مُتجزأة
الصعود المتزايد لهذه الجماعات المسلحة ‘غير التابعة للدولة‘ هو موضوع شغل اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ فترة ليست بالقصيرة.
وكلما تجزأ النزاع أكثر، مع انخراط مجموعات مُختلفة فيه – غالباً ما تُغيير تحالفاتها – كلما أضحى من الأصعب على اللجنة الدولية تحقيق واحدة من أهم مهامها، ألا وهي التَحَدُّث مع الأطراف المُتحاربة، وحَثَّها على احترام قواعد الحرب.
وكما يقول براين ماكوينّ، الذي يعمل الآن كمستشار بشأن الجماعات المسلحة ‘غير التابعة للدولة’ في اللجنة الدولية: “لقد شَهِدنا في السنوات السَبع الأخيرة، ظهور جماعات مُسلحة تفوق في عددها تلك التي ظهرت في العقود السبعة الماضية”.
المفروض أن يعرف برايان ما يقوله جيداً، سيما وأنَّه نَفَّذَ بَحث الدكتوراه الخاص به في ليبيا، وأمضى جزءاً كبيراً من عام 2011 في بَحث الجماعات المُسَلَّحة غير التابعة للدولة، وأسلوب تعريفهم لأنفسهم، وطريقة عملهم معاً.
“هذا مجرَّد مشروع الدكتوراة اليومي”، كما يقول مازحاً. ومع حلول نهاية الحرب في ليبيا في أكتوبر 2011، تم إحصاء 236 جماعة مسلحة في مدينة مصراتة (شمال ليبيا) لوحدها. كما تشير بيانات “مركز كارتر” الى مشاركة 1000 جماعة مختلفة بالقتال في النزاع السوري في عام 2014.
التوصل إلى ضَبط النفس
في محاولة لفهم هذه الديناميات المُتغيرة للصراعات القائمة، والعثور على طُرُقٍ للوصول إلى الجماعات المُتقاتلة المُختلفة وفهمها، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بإجراء دراسة تحمل عنوان “جذور ضَبْط النفس في الحرب”.
وكما يشير ماكوينّ، فإن التحدي الأول بالنسبة للجنة الدولية، هو أنَّ العديد من الجماعات المُسَلَّحة الجديدة لا تتوفر على تسلسل هَرمي واضح.
وهكذا، فإن منافذ الدخول التقليدية التي تستخدمها اللجنة الدولية مع الجيوش الوطنية والجماعات المُتَمَرِّدة ذات التنظيم الجيّد بغية مناقشة قواعد الحرب، غير موجودة [في الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة]. وكما يقول ماكوين: “لا توجد هناك قيادة رأسية وسيطَرَة واضحة، كما تفتقر هذه الجماعات إلى الدورات التدريبية”.
علاوة على ذلك، فإنَّ هذه المجموعات المُسَلَّحة الجديدة، ليست مُنظمة حتى، على غِرار بعض القوات المُتمردة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مثل ‘حركة الدرب المضيء’ في بيرو أو‘تنظيم القوات المسلحة الثورية الكولومبية’ (أو فارك اختصارا) في كولومبيا، والتي كان لِكِلاهما تسلسل هرمي واضح، وقادة يُمكن التعرّف عليهم.
أما العثور على الشخص المسؤول لمناقشة اتفاقيات جنيف تماماً، فأمرٌ يمكنك نسيانه تماماً. وبكل بساطة، يعني مثل هذا الإفتقار إلى هيكل واضح، أن مسألة وصول الإمدادات الإنسانية تتحول إلى عملية بالغة الصعوبة والتعقيد.
وكما يوضح ماكوينّ: “يتعين علينا من أجل التقدم مسافة عشرة أميال، أن نتفاوض مع عشرات الأشخاص”. ويسترسل المستشار بشأن الجماعات المسلحة قائلاً: “الجماعات الصغيرة تتنافس فيما بينها، وقد تقوم إحداها بتنفيذ إجراءٍ ما بطريقة مُخالفة للأخرى”.
نماذج مُثيرة للاهتمام
مع ذلك، فإن الدراسة التي نفذتها اللجنة، والتي تناولت عدداً من المجموعات العسكرية، مِن الجيوش الرسمية لأستراليا والفلبين، وحتى تنظيم القوات المسلحة الثورية الكولومبية في كولومبيا، والجماعات الإسلامية في منطقة الساحل الأفريقي، أو مُرَبي الماشية المُسلحين في جنوب السودان، أظهَرَت بعض النماذج المُثيرة للاهتمام.
وكبداية، أشَارَ بريان ماكوينّ إلى أن التلميح المُعتاد، الذي تكرِّره وسائل الإعلام بانتظام، بأن الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة لا تُظهر أي ضبْطٍ للنفس في ساحة المعركة إنما هو خاطئ.
وكما يقول: “نحن نَسمع الكثير عن شيوع الفوضى وأعمال العُنف غير المُنضَبِطة في هذه المجموعات”. ويضيف: “لكن إحدى النتائج المُهِمّة التي توصلنا إليها هي أن طريقة تنظيم مجموعة مُعَيَّنة، تعطينا دلائل على مصادر ضَبط النَفس التي تمارسها المجموعة”.
ولتوضيح ما يقول، يَستَشهد ماكوينّ بمثالٍ في جنوب السودان، حيث هوجِمَت بَلدة معينة وسُويَّت بالأرض، في عملية يصفها ماكوينّ بالـ “قبيحة للغاية”.
غير أن الإمعان بِشَكل أعمق في الحادثة، كَشَف أن الجماعات المُسلحة المسؤولة عن الإعتداء، كانت قد مرَّت بِبَلدتين أخرَيَين قبل إقترافها هذه الجريمة، دون المساس بأي شيء. ولكن لماذا؟
ومثلما إتضح، كان للبلدتين الناجيتين إتصالات “ببعض الشخصيات المُتنفذة للغاية، وكان لكلٍ منهما قادة محليين لهم نفوذهم”، بحسب ماكوين. وفي النهاية، كانت المدينة الثالثة سيئة الحَظ عبارة عن”خيار استراتيجي”.
إدراك مَكمَن النفوذ
إن فهم هوية الطَرَف الذي قد يكون له تأثير على مَجموعة مُسَلَّحة هو الخطوة الأولى نحو إيجاد طريقة لتشجيع ضَبط النفس، أو التحدث بها الخصوص على الأقل.
لكن مصادر هذا التأثير يمكن أن تكون شديدة الإختلاف، إبتداء من الزعماء الدينيين المحليين، وحتى الأوساط التجارية في المُجتمعات، أو مُقدّمي الخدمات والرعاية الاجتماعية المَحَلّيين.
وكلما ازداد الطابع اللامركزي للمجموعة، كلما زادَت مصادر النفوذ التي يُحتمل أن تكون فيها، الأمر الذي يجعل العثور على القناة الصحيحة للتواصل أكثر تعقيداً بدون شك من النَهج التقليدي المُتَّبَع مع القوات المُسلَّحة التقليدية، حيث يُمكن التعرف على الضابط المسؤول بسهولة.
من جانبها، تدرك اللجنة الدولية أنه سيتعين عليها استثمار المزيد من الوقت في البحث عن المجموعات المُختلفة في الصراعات الدائرة اليوم، وتحليل هياكلها وسياقاتها الثقافية والسياسية. ويوفر التقرير الذي أصدرته اللجنة الدولية دروساً مهمة حول كيفية القيام بذلك.
عدم تجريم الحوار
لكن الدراسة تتضمن تحذيراً أيضاً، ينص على وُجوب عَدَم تجريم التَحَدُّث مع الجماعات المُتحاربة. وكانت بعض التشريعات المُتعلقة بمكافحة الإرهاب قد أثارت مَخاوف المجتَمَع الإنساني، باشارتها إلى أن القوانين التي تَحظَر دَعم الجماعات الإرهابية يُمكن أن تُفَسَّر بِمَعنى أن التَحَدُّث مَعَهُم (حول إمكانية إيصال المعونات مثلاً) أو تقديم المشورة لهم (حول التقيد بالمبادئ الانسانية الاساسية في الحرب) يَجب أن يُحظَر أيضاً .
وكما يشير ماكوينّ: “يُمكن أن يكون للعاملين في المجال الإنساني والمجتمعات المحلية تأثير إيجابي على الجماعات المسلحة. لذا فإن تجريم مثل هذا الحوار يأتي بنتائج عكسية. المجتمعات المحلّية يجب أن تبقى على قيد الحياة، وهم مضطرون إلى التنقل بوجود هذه المجموعات”.
لكن مَن سيتولى القيام بهذا الدور إذا لم تكن اللجنة الدولية قادرة على القيام بذلك؟ ومَن هو الطرَف الذي يُحَتَمَل أن يملأ الفراغ الناتج إذا لم يحدث هذا الحوار؟
كما قال بيتر ماورَر، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر للصحافيين في عام 2016: “إن جوهر دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر كحارس يكفل تنفيذ اتفاقيات جنيف، هو التَحَدٌّث مع جميع أطراف النزاع، والتواصل معهم لكي يحترموا القانون الإنساني الدولي”.
ومثلما أضاف: “بالنسبة لنا، لا تشكل حقيقة خَرق هذه القوانين من قِبَل أطراف النِزاع سبباً لعدم التحدث إليهم… ليس من أجل مَنح أي نوع من الشرعية للعمليات القتالية، ولكن لبذل أقصى الجهود لضمان حدٍ أدنى من الإنسانية في الصراعات”.
حدٌ أدنى من الإنسانية… أو بعبارة أخرى: ضَبط النَفس.