الجماعة..التوتر بين الدعوة والسياسة
بقلم: حازم نهار
يُذكر أن أوّلَ تمويلٍ وصل إلى “جماعة الإخوان المسلمين”، كان من الشركة العالمية لقناة السويس، شركة فرنسية بريطانية؛ فقد تلقى مؤسِّس الجماعة حسن البنا مبلغ 500 جنيه في عام 1930، عن طريق البارون دي بنوا، مدير الشركة، في وقتٍ كان البنا قد بدأ فيه بإنشاء مسجد في مدينة الإسماعيلية يعلوه مقر للجماعة. وعندما اعترض أعضاء مكتب الإرشاد ضده، برّر البنا بغرابة تلقيه الأموال قائلًا: “القناة قناتنا، والأرض أرضنا، والمال مال الله”، وهو تبرير غريب جدًا بشأن موافقة الجماعة على تلقي الدعم من الأجنبي المحتل آنذاك.
هذا التوتر بين مقتضيات العقيدة أو الأيديولوجية من جهة والسياسة من جهة أخرى، يكاد يكون ملازمًا دائمًا لجماعة الإخوان في المحطات جميعها، وفي البلدان كلها التي تنشط أو لها وجود فيها. للسياسة قوانينها ومقتضياتها التي لا تتوافق في محطات عديدة مع الدعوة أو الأخلاق أو الأيديولوجية، ومن ثم لا يحقّ لجماعة الإخوان، ولا لغيرها من القوى السياسية، الادعاء أن ممارساتها السياسية هي ابنة العقيدة أو الأيديولوجية أو الأخلاق، فحاجات الواقع ومقتضياته أقوى من الادعاءات الذاتية.
معنى ذلك هو أنه طالما أرادت “جماعة الإخوان المسلمين” الدخول إلى معترك العمل السياسي، فإنه ينبغي لها الخضوع إلى قوانينه وأحكامه وآلياته، ومن ثم لا يجوز لها، أو لغيرها، إسباغ صفة القدسية على أدائها أو تبرير سلوكها السياسي بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية؛ هذا التنازع أو الخلط الذي تمارسه الجماعة بين الإفتاء والسياسة مصدر أساسي لتوترها وتوتيرها للآخرين. أذكر أن أحد البرلمانيين المصريين في برلمان ما بعد الثورة أراد رفع الأذان في مجلس الأمة. هذا يصلح في اجتماعات الجماعة أو في الجامع، لا في مجلس نواب الأمة.
حدَّد البنا رؤيته إلى الإسلام وأهداف جماعته يوم التأسيس في 22 آذار/ مارس 1928 بقوله: “إن الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف”، وعرّف جماعته في مواضع أخرى بقوله “إن الإخوان دعوة سلفية، طريقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة عملية، جمعية ثقافية، شركة اقتصادية، فكرة اجتماعية”. وعلى الرغم من عمر الجماعة الطويل نسبيًا، وعلى الرغم أيضًا من وجود محطات عديدة، في بلدان مختلفة، حاولت فيها الجماعة تقديم نفسها بصورة مغايرة، إلا أن هذه الصيغة الشمولية ما زالت في صلب روح الجماعة عمومًا، ما يزيد من مأزقها السياسي، ومن مأزقنا ومأزق المجتمع والدولة؛ في المادة الثالثة من نظام الجماعة في سورية، تعريف شامل لها ولأهدافها: “غاية الجماعة: عبادة الله تعالى، وابتغاء رضوانه، وهدفها: استئناف الحياة الإسلامية، ببناء الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، بالدعوة والتنظيم، معتمدة جميع الوسائل المشروعة”. تحتاج الجماعة إلى الخروج على تعريفها الأصلي إن أرادت فعلًا التوافق مع مقتضيات العمل السياسي الديمقراطي.
في فيلم “طيور الظلام” لوحيد حامد وعادل إمام، وردت عبارة ذات معنى، إذ يقول فتحي، ابن السلطة، لصديقه علي، ابن الجماعة: “أنتم جماعة لا تعرف كيف تصبح حزبًا، ونحن حزب لا يعرف كيف يصبح جماعة”. فالجماعات الإسلامية ما زالت تغريها حالة الجماعة الواسعة التي تستولي دعوتها على قلوب وعقول “الأمة” كلها، لكنها في الوقت نفسه تعجز عن بناء مشروع أو حزب سياسي قادر على تقديم برنامج عمل واقعي مقنع. وهذا يخفي رفضًا خفيًا للحزبية والتعدّدية، وحتى عندما أرادت الجماعة الانخراط في السياسة، واضطُرت إلى التعامل بغير قناعاتها، أسَّست حزبًا وأبقت على نفسها؛ فهي تستخدم الحزب واجهةً سياسية، لكنها تبقيه مربوطًا بالجماعة مرجعيةً وتوجيهًا.
تفتقد الجماعة في ممارستها السياسية القدرة على كسب ثقة القوى السياسية الأخرى، بحكم عدم وضوح الجماعة من حيث أهدافها النهائية، أو في الأحرى بحكم شمولية دعوتها واتساع النطاق الجغرافي لأهدافها بما يتجاوز الحدود الوطنية، إضافة إلى قدرتها على ممارسة براغماتية فاقعة؛ سياسات متناقضة ومتبدِّلة تجري تغطيتها بالدين، مثل انتقال الجماعة في سورية من الحوار مع النظام قبل الثورة السورية بأشهر قليلة إلى التعامل الحذر مع الثورة في بدايتها، ومن ثم إلى التطرف في شعار إسقاط النظام بعد الثورة بشهرين، ما يُعطي شعورًا يكاد يكون ثابتًا إزاءها، مفاده هو أن هناك دائمًا ما يُطبخ تحت طاولتها. من العناصر المقلقة أيضًا مساحتها الأيديولوجية الممتدة التي تستوعب تنظيميًا المسلمين العاديين والتنويريين والمجدِّدين والإصلاحيين والوسطيين والصوفيين والسلفيين والمتطرفين وغيرهم، ومن ثمّ لم يكن غريبًا أن قادة الجماعات الإسلامية المتطرفة في معظمهم قد انطلقوا من رحم الإخوان المسلمين.
من عناصر القلق وعدم الاطمئنان الأخرى تجاه الجماعة وجود التنظيم العالمي الفاعل، والقادر على التأثير فعليًا في سياسات الجماعات الإسلامية في الإطار الوطني، فهو لا يشبه القيادات القومية للأحزاب القومية (البعث) التي كانت دائمًا ديكورًا غير مؤثر في سياسات هذه الأحزاب في بلدان مختلفة، مثل سورية والعراق، ما يعني أن للجماعة ارتباطات فوق وطنية دائمًا، يمكنها أن تمنع حدوث توافق وطني مع القوى الأخرى.
تستثمر الجماعة في الشعبوية، معتمدة على ثقل الإسلام في الوعي العام، وتعتمد عليه في إبراز عضلاتها واتساعها، على حساب الدقة في الأداء والعقلانية السياسية والجهد الذاتي؛ جماعة عمرها يقترب من مئة عام، وإلى هذه اللحظة لا تتقن الحسابات السياسية الاستراتيجية، ومستعدة دائمًا لتكرار أخطائها التي لا تقع نتائجها عليها، بل على الجميع. في حين تسعى في علاقتها بالقوى الأخرى لاستخدام مفاهيم ولغة فضفاضة تسمح لها بالتعاطي مع معضلات الواقع بطريقة تؤجل الخلافات، ولا تحلّها. مفهوم المدنية الذي تطرحه، وطرحته قوى أخرى عديدة، لا يعيِّن ولا يحدِّد شيئًا. المفاهيم العامة من دون تحديد دلالاتها تسمح لها بإعادة التفسير دائمًا، والتملّص من أي التزامات، فضلًا عن الشكوك في إخلاصها للعملية الديمقراطية، والتخوف المهيمن من سعيها لأسلمة الدولة والمجتمع في حال وصولها إلى الحكم.
يتحمّل الإخوان المسلمون في سورية بعض المسؤولية عن فشل المعارضة على المستوى السياسي والتمثيلي، فقد تصدّروا المشهد في بداية الثورة، وكان يفترض بهم أن يكونوا في الصفوف الأخيرة انطلاقًا من اعتبارات وطنية أولًا، ومن حسابات سياسية عقلانية ثانيًا، لكنهم تعاملوا مع الثورة بوصفها فرصة للنزاع على السلطة، ما غيَّب بعدها الوطني؛ وضع الإخوان ثقلهم، منذ الأشهر الأولى، وساعدوا النظام السوري، موضوعيًا، في إضفاء صبغة إسلامية على الثورة بدلًا من سمتها الوطنية، وتجلى هذا في أسماء الجمع التي فرضوها، وساعدتهم قنوات إعلامية في هذا المسعى، مثل قناة الجزيرة، كما هيمنوا على التشكيلات السياسية، المجلس والائتلاف، بفضل تعدّد الهيئات التي بنوها في المنافي، ودخلوا في لعبة التسويات والمساومات داخل الائتلاف وخارجه، ما أدى إلى كوارث حقيقية.
مع اعترافنا بأن جذر التطرف والعنف هو “النظام السوري”، لكن كان يمكن لجماعة الإخوان في سورية أن تعمل على قطع الطريق على التطرف الأصولي، على اعتبار أنها تقدِّم نفسها إسلامًا وسطيًا، وانطلاقًا من مراجعتها الخاصة لتجربة الثمانينيات المأساوية، عندما أصدرت في أيار/ مايو 2001 في لندن “ميثاق شرف وطني للعمل السياسي في سورية”، وأعلنت عن نفسها بوصفها حركة تنبذ العنف وتؤمن بالتعدّدية وتحتكم إلى الديموقراطية، ولقي هذا ترحيبًا في أوساط المعارضة السورية آنذاك. لكنها، بعد الثورة، لم تفعل، بل سارت في الاتجاه نفسه تقريبًا، عندما عملت هي الأخرى على تشكيل جماعات إسلامية مسلحة، على الرغم من بيانها المتقدِّم أيضًا الذي أصدرته في 25 آذار/ مارس 2012.
لم تُظهر جماعة الإخوان في سورية موقفًا حاسمًا تجاه التنظيمات المتطرفة، وسعت أحيانًا للاستثمار فيها أو التشارك معها في محطات معينة أو مغازلتها أو نقدها بصورة “العتب”؛ في محطة من المحطات، قال مراقبها العام في سورية “ستعطي جبهة النصرة مؤشرًا إيجابيًا إذا قامت بإجراء مراجعات فكرية وفكّت ارتباطها بالقاعدة”، وفقًا لما قاله في حوار منشور في موقع الجماعة. وفي محطة أخرى، رحبت الجماعة بقرار “جبهة النصرة” فك ارتباطها بتنظيم “القاعدة”، وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، وكأن المشكلة قد حُلَّت بهذا التغيير! وبعد خراب البيدر، جاء بيانها الأخير في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، بعنوان (براءة)، “نحبّ أن نؤكد في (جماعة الإخوان المسلمين) في سورية.. براءتنا من فكر الغلو والتكفير بمدارسه وتنظيماته ومنظماته على امتداد الجغرافيا الإسلامية والعالمية، نبرأ من هذا الفكر ومن كل ما يصدر عن حامليه من تكفير وتقتيل وتفجير..”.
كانت تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا مختلفة عن تجارب جماعات “الإخوان المسلمين” في البلدان العربية؛ فعلى الرغم من اختلافنا بهذا القدر أو ذاك مع السياسة التركية في تعاطيها مع الحدث السوري والمعارضات والفصائل السورية، إلا أن تجربة العدالة والتنمية تركيًا تنتمي في الحصيلة إلى الديمقراطية والحداثة عمومًا، على الرغم من أنها باتت، في السنوات الأخيرة، تنحو باتجاه الهيمنة. ربما كان الحاسم في تجربة العدالة والتنمية هو تقدّم الدولة التركية في مقابل تأخر وضمور الدولة في البلدان العربية. مع ذلك لم تشكل هذه التجربة المغايرة، للأسف، إلهامًا فعليًا للجماعات الإسلامية في بلداننا، على الرغم من افتتانها الظاهري بها.
لا تختلف القوى الأخرى كثيرًا في أدائها السياسي عن “جماعة الإخوان المسلمين”، لكن ما يجعل الأخيرة أكثر إشكالًا هو مرجعيتها الدينية، مع ما يحمله هذا الأمر من مخاطر الانزلاق إلى التطرف والعنف والطائفية والهيمنة والشعبوية. تحتاج الجماعة إلى ثورة حقيقية وصادقة على نفسها، تشمل المنطلقات والأسس النظرية والأهداف والتنظيم والتزام مبادئ العمل السياسي الديمقراطي في داخلها، وفي علاقتها بالآخر، ثورة تبدأ من تغيير اسمها أولًا.
نقد الجماعة لنفسها، ونقدنا لها، ضرورة وطنية، بعيدًا عن شيطنتها التي تهدف إلى تبرئة الذوات الأخرى، وتحميل الجماعة المسؤولية كلها عن فشلنا أو تهدف لمغازلة حكوماتٍ بعينها لم تكن في أي لحظة في الطريق القويم، ولا مع ثورات الشعوب. أخطأت القوى السياسية المصرية في انقلابها على المسار الديمقراطي، وفي سيرها في ذيل الانقلاب العسكري؛ نظرها القصير لم يجعلها تتعلم من حكمة ابن المقفع “أُكلت يوم أكل الثور الأبيض”، وها هي قد تحولت إلى جثث لا تتقن شيئًا سوى انتظار الفرج من رب الفرج.
نعم للنقد، ولا للشيطنة.