كيف ظهرت الحياة؟ هل خلق الإنسان من علق؟
الجمعة 15 حزيران (يونيو) 2012
ترجمة : حميد زناز
اندري براك مدير بحوث شرفي في المركز الوطني للبحوث العلمية (فرنسا). فلكي- وبيولوجي، يًدرس أصل الحياة في مركز البيوفيزياء الجزيئية في أورليون. والرئيس الشرفي للشبكة الأوروبية لعلم الاستروبيولوجيا وعضو شرفي أيضا في معهد النازا في نفس العلم. من بين مؤلفاته : “هل الحياة كونية؟” و”هكذا أصبحت المادة حية…” و”الحياة في الكون : بين الأساطير والحقائق”.
هل يمكننا تأريخ ظهور الحياة على وجه الأرض بدقة؟
نتّفق عموما على أنّ الحياة بدأت تدبّ في جزء من المادة في مياه المحيطات منذ حوالي أربعة مليارات سنة. ولكن يجب تفسير ما المقصود بـ “الحياة”. في الحقيقة نعتبر “حيّا كحدّ أدنى” أنظمة جُزيئية مفتوحة – تتلقى مادة وطاقة – وتكون قادرة على التكاثر الذاتي والتطور. وهذه الجزيئات الأصلية الأولية هي بشكل ما آلات كيميائية ذاتية الحركة قادرة على توليد جزيئات أخرى على صورتها. وهكذا تزيد في إنتاج نفسها بنفسها. ومن المحتمل أنها كانت مبنيّة على هيكل من ذرّات الكربون تضاف إليها ذرّات هيدروجين و أوكسجين وأزوت وكبريت وفسفور، وهي جزئيات يصفها علماء الكيمياء بــ “العضوية”.
لماذا اعتبار الماء أصل الحياة؟
لكي تتمكّن الجزئيات من الالتقاء ينبغي أن تكون لها القدرة على الحركة. في حالتها الجامدة، لا تتمكّن من الحركة، وفي الحالة الغازية يكون مجموع الجزئيات المتبخّرة مختزلا جدّا. تقدّم مرحلة السيولة إذن أفضل محيط لانتشار وتبادل الجزيئات وهو الشرط الضروري لبروز الحياة. وقد لعب الماء هذا الدور الجوهري إذ كان وجوده على سطح الأرض مبكّرا جدا.
كيف كان حال الأرض حينما ظهرت الحياة؟
كانت الأرض البدائية عبارة عن مجموعة من المحيطات محاطة بأحواض من المياه قليلة العمق و لكنها ساخنة تتراوح درجة حرارتها ما بين 50 و80 درجة مئوية. كانت تشبه ايسلندا الحالية. ومقارنة بالكواكب الأخرى للأرض حجم جيد، وهي على مسافة جيدة من الشمس. لو كانت صغيرة الحجم كالقمر أو عطارد مثلا، لما كانت تمكنت من المحافظة على جو ضروري يبقي الماء سائلا على السطح. ولو كانت الأرض أكبر حجما مثل زحل أو جوبيتر لكانت غازية ولكان وجود الماء مستحيلا أيضا. ونفس الشيء أيضا حينما يكون كوكب كثير القرب من نجمه فسترتفع حرارته تحت تأثير الإشعاع النجمي. يتبخر الماء ويشحن الغلاف الجوي بكميات هائلة من بخار ماء تساهم في حدوث الاحتباس الحراري والاحترار المناخي. وتلك دائرة مغلقة تؤدي إلى تدمير الحياة. وعلى النقيض من ذلك فكوكب بعيد جدا من نجمه لا يستطيع أن يأوي ماء سائلا على سطحه إلا إذا استطاع أن يحتفظ باحتباس حراري دائم. ولكن يمكن للماء أن يؤدي إلى إخفاء نفسه بنفسه بتذويب غاز الاحتباس الحراري! حينما يذوب جراء المطر، يتحول ثاني أوكسيد الكربون إلى حجر جيري في قاع المحيطات. وهكذا تنقص شدة الاحتباس الحراري وتهبط درجات الحرارة إلى حد تحول كل المياه إلى جليد قوي على السطح.
تقدم الأرض شروطا مثالية لظهور الحياة إذن؟
بالضبط! ولهذا يتخذ العلماء الذين يدرسون تطور الحياة في الكون من الحياة الأرضية منطلقا للبحث عن الحياة في مواضع أخرى. يحصرون ابحاثهم في المكونات الأساسية للحياة على سطح الأرض وهي الماء والجزئيات “العضوية” وذلك ليس مجرّد محاكاة لمسلك أنانيّ ولكن لأن هذا الزوج (الماء والجزئيات العضوية) يتوفر على خصائص استثنائية مثبتة في المخبر.
كيف يتم المرور من جزيء عضويّ إلى الكائن الحيّ المعقّد الذي نعرف، إلى الحيوان، إلى الإنسان…
داروين هو الذي اقترح أول سيناريو “عضوي” حينما كتب سنة 1871 إلى عالم النبات البريطاني جوزيف هوكر : ” ولكن لو تمكنّا من ابتكار في بركة ماء صغيرة ساخنة مختلف أنواع أملاح الأمونيوم والفوسفات،الضوء، الحرارة، الكهرباء، الخ. لفسحنا كيميائيا المجال لتكوّن مركب هيوليناتي (هولينات). “إنها نموذج لــ “حساء أساسي” طُوّر بشكل كبير من طرف أليكسندر أوباران سنة 1924 ثم جون هالدان سنة 1929. ومن ذلك الوقت حاول علماء الكيمياء معرفة أين وكيف تولدت الجزئيات العضوية انطلاقا من ثاني أوكسيد الكربون و/أو غاز الميتان، أبسط مصادر الكربون. ويتمّ البحث في ثلاث قنوات: الجو ، تحت الماء، خارج الأرض.
هل تسمح بتوضيح النقاط الثلاث؟
كان مفترضا فقط أن الجزيئات ما قبل-الحياتية أو القوالب المبكرة للمادة الحية، قد تركبت في الغلاف الجوي للأرض البدائية ولكن تدعمت هذه الفكرة عن طريق التجربة سنة 1953 من طرف ستانلي ميلر الذي تحصّل على أربعة أحماض أمينية، العناصر المكونة للبروينات بتعريضه لخليط من غاز الميتان والهيدروجين والأمونياك والماء إلى شحنات كهربائية. ومع ذلك فحينما نعيد تجربة ميلر بالمرور تدريجيا من غاز الميتان إلى ثاني أوكسيد الكربون، المكون الغالب للغلاف الجوي البدائي يصبح تكوّن الأحماض الأمينية صعبا أكثر فأكثر. وإذن فمن الأرجح ألا يكون الغلاف الجوي البدائي هو مصدر المادة الأساسي الضروري لظهور الحياة الأرضية. تملك بعض النظم الحرارية المائية البحرية في المحيطات خصائص تؤهلها لتوليد جزئيات ما قبل- حياتية و لكن لا جزئية من تلك الجزئيات قد تم تحديد هويتها إلى اليوم. ومن جهة أخرى فقد سمح جمع وتحليل النيازك والميكروسكوبية منها على الخصوص التأكيد على أنها قد وهبت للأرض نسبة كبيرة من المادة الأولية المكربنة.
ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من معرفة الحي البدائي ؟ هل بمقدورنا خلق الحياة في أنابيب الاختبار ؟
تشير عالمية الشفرة الجينية وأسلوب العمل الخلوي المستعمل من طرف كل النظم الحيوية الحالية ان الحياة قد ظهرت كخلية مصغرة. انطلاقا من جزئيات عضوية صغيرة، حاول إذن علماء الكيمياء جاهدين إعادة تكوين نماذج محدودة من غشاءات،بروتينات ، إ.ر.ن وهو شكل من الحمض النووي (ا.د.ن ) قائم على رد الفعل والذي يكون من المحتمل أنه كان سابقا لهذا الأخير في تاريخ الحياة. وتمكن علماء الكيمياء وفي ظروف تذكّر ظروف ما كانت عليه الأرض البدائية من إنشاء غشاءات وبروتينات مصغرة، ولكنهم لم يفهموا بعد كيف استطاعت اسلاف الــ أ.ر.ن الظهور تلقائيا في المحيطات البدائية والبقاء فيها على قيد الحياة. ونفس الصعوبة نصادفها فيما يخص العالم الحي المتعلق تكوينه بـ ا.ر.ن فقط، وهي المفترضة كأسلاف للفيروسات الحالية و التي يبدو أنها سبقت عالم حي خلوي. ومن هنا باءت بالفشل وإلى حد اليوم كل المحاولات التي أجريت بهدف خلق حياة بدائية في المختبر. وتبقى حظوظ الكيميائيين في النجاح متوقفة على مدى بساطة سلسلة العمليات المُتصورة مستقبلا. إن اكتشاف أصل ثان للحياة يكون مستقلا عن الحياة الأرضية، سيقدم دليلا على بساطة الظاهرة ويبرهن على طابعها المتكرر.
ذلك هدف من أهداف كل البحوث المتعلقة بالحياة خارج الأرض؟
نعم.. لنبدأ بتلك البحوث المتعلقة بأجسام المنظومة الشمسية وعلى رأسها المريخ. نحن نعرف الآن أن الماء موجود على سطح المريخ منذ 3،8 مليار سنة. أما فيما يخص إمكانية وجود جزيئات عضوية، فلم تكتشف أجهزة الرصد “فيكينغ” شيئا على سطحه. ولكن في حوزة العلماء خمسون حجرا نيزكيا آتية بلا أدنى شك من هذا الكوكب، ونحن نعلم أن بعضها يحتوي على جزيئات عضوية. وإذن فالمكونات التي سمحت بظهور الحياة على الأرض هي متوفرة على سطح المريخ.
وفي غير المريخ؟
قمر’أوروبا’،أصغر أقمار جوبيتر الأربعة مغطى بقلنسوة من الجليد يبلغ سمكها عشر كيلومترات على اقل تقدير. وتحت الجليد يملك هذا القمر محيطا من الماء المالح. ويمكن أن توفر مصادر مائية حرارية ممكنة في هذا المحيط المادة المكربنة الضرورية لظهور حياة على سطحه.
أما تيتان، أكبر قمر تابع لزحل فهو يشبه الأرض بغلافه الجوي الكثيف المتكون من الأزوت بأكثر من 99 بالمائة، ولكن ايضا من غاز الميتان وضباب كثيف من الجزيئات المكربنة المعقدة. توجد كتل متناثرة من جليد الماء على السطح ولكن لا أثر للماء السائل إطلاقا إذ يسيطر هناك برد قارس جدا تصل درجته إلى حوالي 180 درجة مئوية تحت الصفر. يمكن أن توجد مياه جوفية تحت السطح حسب قياسات رادار “كاسيني” حول زحل. ولكن بالمقابل هناك بحيرات متناثرة على سطح تيتان من غاز الميتان وكذلك الايتان السائل. أما أونسلاد، سادس قمر تابع لزحل فهو مغطى بالجليد.
ألا يجعل اكتشاف العديد من الكواكب لخارجة عن النظام الشمسي هذا الاستقصاء مدوخا؟
لقد حلم أبيقور بعدد لا نهائي من العوالم الحية، وهو حلم استعاده في وقت لاحق مفكرون كبار، من جيوردانو بونو إلى إيمانويل كانط. لم يتحقق هذا الحلم بعد ولكن هذا الحلم يستحق الدوار! لقد بتنا نعرف أحسن فأحسن الظروف التي سمحت بظهور الحياة على وجه الأرض وأصبحنا نحدد أحسن فأحسن المواقع الخارج- أرضية التي تسيطر فيها ظروف مشابهة. ستقولين لي : لماذا هذا الإصرار والعناد؟ ما هي تكلفته؟ وسأجيبك مع انشتاين: “من المهم ألا نتوقف ابدا عن طرح الأسئلة”. فهذا الفضول وهذه الحاجة الملحة للفهم هما اللذان أوصلا النوع الانساني إلى المعارف الحالية وإلى ما وصل إليه من نبل الفنون. وكما كشفت أيضا هشاشة النوع البشري، ذلك الكيان الصغير جدا الضائع في هذا الكون العظيم .
المصدر :
André Brack
أجرى الحوار كارولين برون Caroline Brun
Le Nouvel Observateur, Hors-série, Janvier-Février 2011