الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي وأوروبا: مسائل مفتاحية للحوار"
د. فولكر بيرثس
يحتل الإصلاح في الشرق الأوسط مرتبة متقدمة على جدول الأعمال عبر الأطلسي. ستستمر المقاربة الأوروبية للمنطقة بالاختلاف عن المقاربة الأمريكية، جزئياً على الأقل. أعرض فيما يلي بعض المسائل المفتاحية التي ستهيمن على الحوار بشأن السياسة العامة المتعلقة بالشرق الأوسط “الكبير”، و”الموّسع” الآن، وسأصفُ ما أراه ممثلاً للمواقف الألمانية والأوروبية في هذا النقاش. سأقيم الحجة على وجود إمكانية كبيرة للتعاون، بل للتعاون المثمر أيضاً. إن “اللجنة الرباعية” وخطة الطريق الخاصة بها من أجل السلام في الشرق الأوسط لمن القضايا التي أتناولها. ليس لنا أن نتجاهل بأية حال أن اللاعبين الأساسيين الأمريكيين والأوروبيين مختلفون بشأن عدد من الافتراضات السياسية الأولية بما يخص المنطقة. يتعلق هذا، من بين عدد من الأشياء الأخرى، بالصلة بين الصراع العربي الإسرائيلي وعملية السلام وبين التغيير في المنطقة، والتطورات السياسية الداخلية في إيران، وقيمة العلاقة الشاملة متعددة الأطراف مع دول المنطقة.
الترحيب الأوروبي الحذر بمبادرة الشرق الأوسط الكبير ابتداءً بالحرب في أفغانستان، تبنت الإدارة الأمريكية قضية إدخال “نظام جديد إلى ما تدعوه بالشرق الأوسط الكبير. وقد أكدت ذلك بإعلانها مبادرة الشرق الأوسط الكبير والذي سعت حتى تؤمن موافقةً له عبر الأطلسي أثناء قمة الثمانية الكبار في حزيران 2004، وفي قمم الناتو والقمم الأمريكية الأوروبية. كان إعلان قمة الثمانية الكبار لـِ”الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع منطقة الشرق الأوسط الكبير الموّسع وشمال أفريقية” دبلوماسياً من حيث النبرة، وهو لم يكن تبنياً للمبادرة الأمريكية. ما من شك في أنَّ الشرق الأوسط سيصبح، في السنوات القليلة القادمة أو في العقود القليلة القادمة، المركز الجيوسياسي الدولي الذي يقرر – بالتالي – العلاقة بين أوروبا وأمريكا إلى حد كبير. في الأصل، اشتملت المبادرة الأمريكية على سلسلة من البرامج السياسية والعسكرية والاقتصادية. يتضمن هذا تدابير ثنائية ومتعددة الأطراف لإحلال الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط، وعروضاً بالتجارة الحرّة لبلدان محددة، وتعميقاً وتوسيعاً جغرافياً لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي- الشراكة المتوسطية، وبرنامجاً للتعاون العسكري من أجل السلام شبيهاً بالناتو.
غير سعيدٍ بطريقة إيصال المبادرة، أو عدم إيصالها بالأحرى، إلى دول ومجتمعات الشرق الأوسط، وبسبب ما يمكن أن يكون الأوروبيون قد اعتبروه إسقاطاً للفرضيات الإشكالية الكامنة فيها، لم يستجب الرأي العام الأوروبي بحماسة عندما طرحت المبادرة للمرة الأولى. ثمّة سببان لدى صنّاع السياسة الأوروبيين لكي يستجيبوا لتلك المبادرة بطريقة نقدية، لكن مرحب بها عموماً. فأولاً، عكست المبادرة طريقة تعامل أكثر ميلاً للتعاون بكثير من معظم ما رأته أوروبا من إدارة بوش خلال السنوات الثلاث الأولى من عهدها –على الأقل فيما يتعلق بالأوروبيين وغيرهم من الثمانية الكبار. ومن هنا، فقد نظر كثير من القادة الأوروبيين إلى المبادرة كمبادرة يمكن لها المساعدة في شفاء العلاقات عبر الأطلسية التي شهدت توتراً كبيراً قبل الحرب العراقية وأثنائها. ثانياً، عكست المبادرة نوعاً من إعادة التفكير من جانب إدارة بوش: الوعي المتزايد، في أعقاب حرب العراق، بأنه ليس من الكافي ممارسة التهديد العسكري إزاء الأنظمة غير الصديقة، أو حتى الإطاحة بها، في سياق القتال ضد الإرهاب وضد انتشار أسلحة الدمار الشامل. أدركت واشنطن متأخرةً أن “تغيير النظام” المفروض خارجياً غير كافٍ وأنه لا بد من معالجة المشاكل البنيوية في المنطقة.
على أوروبا أن تستمر بتوقع مطالب أمريكية تشدد على أخذها دوراً في إعادة تنظيم أو إعادة بناء “الشرق الأوسط الكبير”. وهذا ما ستكون عليه الحال ليس في ظل إدارة جمهورية فقط، فمن المرجح أن إدارة ديمقراطية ستجعل من إعادة صنع الشرق الأوسط جزءاً من جدول أعمالها، إضافة إلى كونه جزءاً من جدول الأعمال عبر الأطلسي.
في الوقت عينه، ما تزال المبادرة الأمريكية بعيدة عن أن تكون ناجزة التفاصيل. وفي الواقع، فإن المفهوم الجيوسياسي المفخّم المتضمن في عنوانها ليس سوى إخفاء جزئي للافتقار إلى الأفكار الجديدة. ويمثل هذا الوضع فرصة لأوروبا؛ فبدلاً من الانجرار مع المبادرات الأمريكية (أو رفضها)، تستطيع أوروبا – بل يجب عليها- لعب دور بارز في صياغة النقاش بشأن استراتيجية عبر أطلسية شاملة تستهدف جوارها الجنوبي. ستبقى بعض الخلافات بشأن عدد من المسائل المفتاحية بكل تأكيد، وهي معروضة فيما تبقى من هذه الورقة.
إحلال الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط
يتفق كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أن التحول الديمقراطي للعالم العربي، أو الشرق الأوسط الأوسع، هدف يجب السعي لتحقيقه. ومن المرجح أن الأوروبيين سيذكرون شركاءهم الأمريكيين بأن أوروبا قد سعت لهذا الهدف حتى قبل أيلول 2001، وهي لم “تكتشف” نقص الديمقراطية في العالم العربي في سياق صراعها ضد الإرهاب الدولي. وفي الواقع، فقد كان بناء الديمقراطية ودعم المجتمع المدني وحكم القانون وحقوق الإنسان عناصر مفتاحية في الميثاق السياسي والأمني لعملية برشلونة (الشراكة الأوروبية المتوسطية) في أبعادها المتعددة والثنائية الأطراف (أي، إعلان برشلونة والاتفاقيات الثنائية). من وجهة النظر الأوروبية، فإن ما يلزم ليس “استراتيجية متقدمة من أجل الحرية” (جورج بوش)، بل منظوراً عاماً للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي في جوار أوروبا من شأنه بناء مقدرات هذه البلدان ودفع مجتمعاتها على طريق التطور واحترام كرامتها والإقرار بالروابط القائمة بين التخلف السياسي والاقتصادي من جهة، والنزاعات الإقليمية غير المحلولة من جهة أخرى.
ربما كان على الأوروبيين أيضاً، في النقاش عبر الأطلسي، أن يشيروا إلى أن إحلال الديمقراطية ليس بالعملية الخطّية البسيطة بل هي عملية معقدة متطاولة في الزمن مليئةٌ بالتناقضات والمعارك السياسية والانتكاسات. تميل الولايات المتحدة للاستشهاد بالعجز الديمقراطي للحكومات التي تعارض المصالح الغربية في المنطقة ولتهديدها بتدابير عقابية من قبيل فرض العقوبات (بل وحتى إمكانية تغيير الأنظمة المفروض من الخارج). سيحاول صناع السياسة الأوروبيون مساندة القوى ذات الذهنية الإصلاحية في البلدان المعنية وحثّ الأنظمة القائمة للاتجاه نحو الإصلاح عبر الحوار والعون المادي وعبر صيغ اشتراطية.
تصبح هذه الفوارق في طريقة التعاطي واضحة على نحو خاص عندما يتعلق الأمر بإيران. فبالرغم من المصالح عبر الأطلسية المشتركة (ليس أقلها تخلي إيران عن برنامجها النووي)، لا تزال الولايات المتحدة وأوروبا ينظران إلى إيران عبر منظورين مختلفين اختلافاً أساسياً. وما من شك في أن هذا سيستمر في اعتراض أية سياسة مشتركة. لا تزال الولايات المتحدة مستمرة في اعتبار إيران “دولة مارقة” يرفض نظامها تكييف سياسته المحلية والخارجية وفق الطلبات الغربية (والشعبية المحلية على الأرجح). ترى أوروبا في إيران شريكاً إشكالياً، لكنها ترى فيها مجتمعاً معقداً أيضاً يملك إمكانيات هائلة لحدوث تطورات تقدمية في سياسته المحلية. وهي ترى في إيران أكثر أنظمة الخليج جمعيةً أيضاً.
غالباً ما تتضمن الجهود البراغماتية الأوروبية لدعم الديمقراطية ذلك المبدأ غير المرضي المتمثل في “أخذ البلدان من حيث هي موجودة” والمراهنة على الأمثلة الجيدة في أماكن أخرى، وعلى الممارسات الجيدة والحوار بدلاً من التهديد بتغيير النظام. قد يكون صناع السياسة الأوروبيون مستعدون لمساندة خطوات إصلاحية صغيرة (التعليم، الإصلاح الإداري أو السياسات الاقتصادية) في بلدانٍ مثل سورية، حتى لو كانت سرعة التطورات السياسية في ذلك البلد تُقَصِّرُ كثيراً عما ترغب أوروبا برؤيته. في الوقت عينه، فهم ينتقدون بلداناً مثل تونس وفلسطين ولبنان وإسرائيل لنواقصها في التطور الديمقراطي ولانتهاكات حقوق الإنسان التي قد تكون أقلّ خطورة نسبياً. إن من دروس عملية برشلونة أنه قد يكون من الحكمة تجزئة مفهوم الديمقراطية إلى عناصره المكونة مثل حكم القانون واستقلال القضاء والشفافية والمسؤولية وتقوية المجتمع المدني وهلم جراً. قد يسهل هذا اجتذاب نخب هذه البلدان وخلق مصالح مشتركة بدلاً من خلق الخوف من تغيير للنظام يُفرض من الخارج.
على كل حال، لا يجوز تجاهل نواقص السياسة الأوروبية في محاولتها دفع قضية إحلال الديمقراطية إلى الأمام. وفي الواقع، لم تناقش برلين ولا بروكسل مسألة مشروطية المعونة الاقتصادية والعلاقات السياسية بالعمق الكافي، دعك عن تفعيلها.
الديمقراطية كهدف لا كشرط مسبق
مع كون التحول الديمقراطي في الدول العربية هدفاً بشكل واضح، فإنه لا يمكن –من منظور أوروبي- أن يعتبر شرطاً مسبقاً للعلاقة السياسية، وخاصة للانخراط الجدي في عملية السلام الشرق أوسطية. يدعي المعلقون الأمريكيون والإسرائيليون، من حين لآخر، أن الدول الديمقراطية هي وحدها من يستطيع صنع السلام، وأنه سيكون من غير الناضج استئناف الجهود السلمية الجدية في الشرق الأوسط ما لم تتحول الدول العربية الرئيسية إلى دول ديمقراطية. من الناحية العملية، يستخدم هذا الادعاء كذريعة من جانب من لا يرغبون باستئناف محادثات السلام الجدية. وفوق هذا فهو خاطىء من الناحية التجريبية بكل تأكيد. ليست الدولة العربية الأولى في صنع السلام مع إسرائيل، وهي مصر، بالديمقراطية النموذجية؛ ومع هذا فقد ظلت اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية مستقرة لربع قرن كامل. أما العكس فصحيح: سيشجع السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب الجهود الإقليمية والخارجية الهادفة لتحقيق التحول الديمقراطي (انظر أدناه). لن يؤدي ربط المحاولات الغربية لتشجيع السلام بإحلال الديمقراطية في البلاد العربية إلا إلى مفاقمة انعدام مصداقية السياسات الأمريكية والغربية في المنطقة، بل يمكن له أن يعيق التطورات المحلية الايجابية على المدى البعيد.
أين هو “الشرق الأوسط الكبير”؟
من أجل تطوير سياسات لمنطقة معينة من العالم، من المهم أن يعرف المرء عن أية بلدان يتحدث فعلاً. لا يمكن لسياسة ذات توجيه عقلاني أن تُطََوَّر إلا إذا أوليَ اهتمامٌ كافٍ بالنزاعات المحلية وما يرتبط بها، وبالكيفية التي تنظر بها كل دولة – وكل مجتمع- إلى نفسها، وإلى تلك العلاقات الدولية السياسية والاجتماعية – الثقافية والاقتصادية التي تجعل الناس يحسّون بأنهن ينتمون حقاً إلى منطقة محددة. يربط المشاركون في النقاش الأمريكي للشرق الأوسط الكبير، إضافة إلى بعض زملائهم الأوروبيين، ذلك المفهوم مع مفاهيم جيوسياسية شديدة الاختلاف. قد تبدو شعارات مثل “من مراكش إلى بنغلادش” شعارات جيدة، لكنها ليست واضحة أبداً. في ورقة عمل تحضيرية لقمة الثمانية الكبار في حزيران 2004، عرّفت الإدارة الأمريكية الشرق الأوسط الكبير على أنه يشمل الدول العربية وإسرائيل وتركيا وإيران وباكستان وأفغانستان. يذهب بعض النقاد لما هو أبعد من ذلك إذ يضمّنون كل وسط آسيا أو كل القوقاز. لكن، وفي نفس الوقت، فغالباً ما يشير المحللون إلى الدول العربية وحدها عندما يشرعون بتحديد مشاكل بعينها.
حتى نجد تعريفاً مفيداً للسياسات الأمنية والخارجية الأوروبية، لا بد من أخذ العوامل الآنفة (العلاقات الانتقالية إضافةً إلى مؤدّى النزاعات الإقليمية) بعين الاعتبار. على هذا الأساس، فإن من المعقول تحديد الشرق الأوسط الكبير على أنه يشمل البلاد العربية وإسرائيل وإيران وأفغانستان دون أن يمتد إلى ما يتجاوز هذه البلدان.
لا يمكن تحديد المناطق بهذه القطعية طبعاً. إذ تربط بعض الديناميات السياسية البلدان المذكورة هنا ببلدانٍ أخرى مثل تركيا وباكستان وبلاد القوقاز آسيا الوسطى. وفي كل الأحوال فإن من شأن تحديدٍ مفرط الاتساع للمنطقة أن يعيق تطور الاستراتيجيات السياسية. من هنا، فإن على صنّاع السياسة الأوروبيين النظر إلى تركيا كشريك أطلسي وعضو محتمل في الاتحاد الأوروبي. يمكن أن يكون للمفهوم القائل بــِ “شرق أوسطية” تركيا عواقب سياسية غير حميدة، بما في ذلك ابتعادها عن أوروبا. وأيضا، على عكس أفغانستان، لا يمكن النظر لبلاد القوقاز ضمن إطار شرق أوسطي (مثلها في ذلك مثل البوسنة والهرسك)، بل بالأحرى يجب النظر إليها ضمن النظام الأوروبي لما بعد الشيوعية. لم تعتمد المعارضة الجورجية على التجربة الصربية كنموذج من غير سبب، فلم تكن أمثلة الحركات الاحتجاجية العربية أو الإيرانية لتفيدها كثيراً. إن باكستان متورطة في أفغانستان كما أن برنامجها النووي قد استفاد من المعونة المالية السعودية. لكن، إن كان لتطوير سياسة مناسبة فيما يتعلق بباكستان أن يحدث فإن على المرء أن يقرّ تماماً بمركزية الصراع مع الهند بالنسبة لذلك البلد. على العكس من ذلك، فإن للتطورات الشرق أوسطية علاقة قليلة بالسياسة الباكستانية. وبالمثل، فإن الترسانة النووية الباكستانية –بعكس الترسانات المحتملة عند ليبيا أو إيران- لا شأن لها بالخليج أو بالصراع مع إسرائيل، كما لا يجوز أن تلعب دوراً إذا ما أمكن طرح إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط على جدول الأعمال. وحتى إن قيّض لجماعة إسلامية وهابية أن تتولى مقاليد الأمور في باكستان، وهو ما سينظر إليه كخطر من قبل القادة الشيعة في إيران، فمن المرجح أن تنظر حكومة باكستان لبرنامجها الصاروخي النووي كوسيلة لردع وتهديد الهند والضغط عليها في المقام الأول. إن معظم سكان جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا الوسطى من المسلمين، لكن، ومن الناحية السياسية، فإن أهمية روسيا تظل أكبر كثيراً بالنسبة لهذه البلدان من أهمية الشرق الأدنى أو الجزيرة العربية.وبينما لا تحب أفغانستان أن تعامل بوصفها منطقة “سوفييتية سابقة” (ثمة عدد كبير من أعضاء النخبة الأفغانية قد درسوا وعاشوا في القاهرة والرياض وجدّة)، فإن نخب آسيا الوسطى قد تربّت في بيئة متمركزة حول موسكو. سيكون على صناع السياسة الأوروبيين أن يأخذوا هذه الخلفيات بحسابهم إن هم أرادوا بناء شراكة مع هذه البلدان، وإقناع مجتمعاتهم بقيمة هذه العلاقات، ودعم إنشاء البنى الإقليمية.
لذلك، قد يكون الاستمرار بالكلام عن، وتوجيه السياسة نحو، منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقية أكثر حكمةً، وذلك كما يعرّفها البنك الدولي وغيره – منطقة تضم الدول شمال أفريقية العربية والمشرق العربي والجزيرة العربية إضافة لإسرائيل وإيران- بدلاً من تحديد منطقة مترامية على طريقة الشرق الأوسط “الكبير”. وحتى ضمن إطار منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقية، فلا بد من الاعتراف بالفروق في البنى الاقتصادية – الاجتماعية والموارد الاقتصادية والعوامل الجيوسياسية. إن ملَكيات الخليج أقل انشغالاً بإسرائيل وإمكانياتها من انشغال بالها بإيران. إن كلاً من إيران وملكيات الخليج متخوفون بشأن التطورات العسكرية والاجتماعية – السياسية المستقبلية في العراق، بينما لا تبدي مصر كبير قلقٍ تجاه تهديدات عسكرية مستقبلية تمارسها دولة عراقية مجدّدة لكنها مهتمة بإسرائيل وسياستها إزاء الفلسطينيين وإمكانياتها العسكرية وموقعها المحتمل في المنطقة ما إن يتم تحقيق التسوية السلمية. على العكس من هذا، فإن المغرب والجزائر تراقب واحدتهما الأخرى باهتمام يفوق مراقبتهما لإسرائيل أو العراق أو إيران.
الاتحاد الأوروبي كإطار مرجعي
إن السياسة الشرق أوسطية الألمانية جزءٌ لا يتجزأ من الإطار الأوروبي. وبالتالي، فيجب أن تكون الأولية للتنسيق مع الشركاء الأوربيين في حالة وجود الشك. بعد أن قلنا هذا، فسيكون من المفضل تحسين التبادل بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة فيما يتعلق بالمبادرات المتصلة بالمنطقة والمشاكل العملية النابعة من تلك المبادرات. مثلاً، تمثل مبادرة الشراكة الشرق أوسطية الأمريكية، التي أطلقت من قبل فريق السياسة الخارجية لإدارة بوش في نهاية 2002، ومن جوانب كثيرة، نسخةً أوسع من الناحية الجغرافية لكنها أقل تمويلاً وأكثر ميلاً للعلاقات الثنائية من عملية برشلونة (الشراكة الأوروبية المتوسطية) والتي هي موجودة منذ 1995. ومن المعروف أن حقيقة كون برشلونة والتجربة الأوروبية في هذه العملية بعيدة المدى متعددة الأطراف والأبعاد لم يتم تقديرها والاستجابة لها من قبل واشنطن حقيقةٌ عائدةٌ جزئياً لكون الاتحاد الأوربي لم يبدِ اهتماماً بإفساح المجال للولايات المتحدة، التي لا يمكن تجاهل دورها كفاعلٍ أمني ـ سياسي في المتوسط، لأي نوعٍ من المشاركة حتى بصفة مراقب.
إن للاتحاد الأوروبي، في الحقيقة، سياسةً عامة محددة حسنة التسلح بالوسائل فيما يخص القسم الأكبر من المنطقة. فبالإضافة إلى عملية برشلونة، والتي أفضت إلى إنجاز اتفاقيات شراكة مع معظم دول جنوب وشرق المتوسط، وإلى استراتيجية عامة لمنطقة المتوسط، يتضمن التناول الأوروبي عدداً كبيراً من المواقف المشتركة إزاء البلدان العربية وإسرائيل وإيران، واتفاق تعاون مع اليمن، ومشاورات منتظمة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، والمفاوضات، عالية التسييس وغير المنتهية بعد، بما يتعلق باتفاقية التجارة والتعاون مع إيران. ومؤخراً، تم إكمال هذه الأدوات التي تركزت على أجزاء من المنطقة عبر “برنامج الجوار الأوروبي الأوسع” وعبر الاستراتيجية الأمنية الأوروبية.
تم وضع الخطوط العامة الأولى لـِ “برنامج الجوار الأوروبي الأوسع” من قبل المفوضية الأوروبية في آذار 2003 بهدف تجنب إتباع سياسة “نفس القياس يناسب الجميع” تجاه المناطق المجاورة للاتحاد الأوروبي في أوروبا وشمال أفريقية والشرق الأدنى. يهدف البرنامج تحديداً، وهو مصممٌ للبلدان التي ليس لها أفق العضوية في الاتحاد الأوروبي، إلى خلق “حلقة من الأصدقاء” حول الاتحاد. ستقدم لهذه البلدان حصةٌ من السوق الداخلية، ومشاركةٌ في برامج الاتحاد الأوروبي، وأفقٌ للاستفادة من “الحريات الأربع” (الحركة الحرة للأفراد والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال) والتي ترافق العضوية في الاتحاد الأوروبي في غير ذلك من الأحوال.
تحدد الاستراتيجية الأمنية الأوروبية، التي تم تبنيها في كانون الثاني 2003، الأخطار التي يمكن أن تأتي من المحيط الجيوسياسي لأوروبا، إضافةً للمبادئ الأوروبية للفعل، وهي ترسم مقاربةً مشتركة بشأن استخدام القوة العسكرية. أما “كأخطارٍ أساسية” فتحدد الاستراتيجية الإرهاب (والذي صار يربط مؤخراً بـِ “التطرف الديني العنيف”)، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والنزاعات الإقليمية (في الشرق الأوسط قبل كل شيء)، وعجز الدولة (مثال الصومال وأفغانستان)، والجريمة المنظمة. ما من شكٍ في أن كثيراً من هذه الأخطار والتحديات نابعٌ من الجوار الجنوبي لأوروبا؛ أي الشرق الأوسط. توضح الاستراتيجية أيضاً أن الوسائل العسكرية لن تكون كافيةً للتعامل مع أيٍّ من هذه الأخطار. وهي، بدلاً من ذلك، تشدد على الحاجة لأخذ الأسباب المعقدة لمشاكل من قبيل الإرهاب وعجز الدولة بعين الاعتبار، وتجمع بين الوسائل السياسية والاقتصادية (وحيث يلزم) العسكرية أيضاً.
في تناقضٍ حاد مع هذه الوفرة من المنظومات الدينامية المتطورة والمترابطة من البرامج الأوروبية فإن الإطار عبر الأطلسي للمبادرات السياسية تجاه أجزاء من الشرق الأوسط الكبير هو تعاون حلف الناتو فيما يتعلق بأفغانستان. إن “الحوارات المتوسطية” لحلف الناتو ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي قليلة الأهمية في الممارسة وهي بالتأكيد لا تشكل إطار العمل الذي يمكن فيه تطوير المبادرات المشتركة إزاء هذه البلدان. وفي حين يمكن لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي أن تقوم بالمساهمة في مجال بناء الديمقراطية، وهي تقوم بذلك (مراقبة الانتخابات والقيام بحملات من أجل حرية الصحافة، إلخ)، فإنها ليست بالمنظمة القوية، وهي لا تكاد تستطيع تقديم حوافز واعدة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقية. إن لدى الناتو ما هو أكثر من ذلك من حيث الإمكانية: التدريب والمناورات المشتركة ودعم الأمن الحدودي والتعاون في مجال حفظ السلام. من المرجح أن تثير هذه المنافع شيئاً من الاهتمام لدى بعض بلدان شمال أفريقية والشرق الأوسط. من المؤكد أن مبادرةً للشراكة من أجل السلام مبنيةً على غرار النموذج المطبق في شرق ووسط أوروبا ستجد من يأخذ بها. لكنها يمكن أن تخلق توقعات غير واقعية أيضاً من قبيل العضوية في الناتو في آخر المطاف، وهي مما لا ترغب الولايات المتحدة وأوروبا بحدوثه بالضرورة. وأخيراً، وبالنظر لمسائل من قبيل تلك التي تقف في مركز مبادرة الشرق الأوسط الكبير وعرض الشراكة الذي قدمته مجموعة الثمانية الكبار ـ كتعزيز أوضاع المرأة ودعم المجتمع المدني وتحسين التعليم ـ فإنه ليس لدى الناتو الكثير مما يقدمه في الحقيقة.
التكامل بدلاً من التنافس
لقد أظهر كلٌّ من الصراع العربي الإسرائيلي وعملية السلام خصوصاً مدى أهمية أن تقوم الولايات المتحدة من جهة، والاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء من ناحية أخرى، بتنسيق مواقفهما (يفضل أن يتم ذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة وروسيا أيضاً)، كما كانت الحال في اللجنة الرباعية الشرق أوسطية. ولن يتم إنجاز أي تقدم في عملية السلام طالما تستطيع الأطراف الإقليمية وضع الأوروبيين والأمريكيين في مواجهة بعضهما البعض. في هذا السياق، يتحدث الاتحاد الأوروبي بحق عن التكامل، والذي هو اختصار للقول بأن للفريقين ميّزات نسبية محددة تمكنهما من أداء مهام معينة، بوسائلهما، أكثر من الآخرين.
لنورد مثالين: تحافظ الولايات المتحدة على ميلٍ أكبر تجاه إسرائيل، بينما يتمتع الأوروبيون بمصداقية أكبر لدى الفلسطينيين. وأيضاً فإن الولايات المتحدة في وضعٍ أفضل لاستخدام الضغط العسكري من أجل عرض الضمانات الأمنية والحفاظ عليها، بينما يمكن لأوروبا أن تقدم منظورات تعاونٍ وتكامل تمثل قوةً مهمة على المستوى السياسي.
والحال كهذا، فإن على أوروبا والولايات المتحدة استخدام هذا المجال من الإمكانيات السياسية المختلفة لتحقيق الأهداف المشتركة، بما فيها السلام في الشرق الأوسط، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومقاومة الإرهاب، والحد من سباقات التسلح الإقليمية. لا يعني هذا أن على أوروبا أن تسير خلف القيادة الأمريكية ببساطة، بل هو يستدعي تنسيقاً وثيقاً في المجالات السياسية الرئيسة. يتضمن التعاون، طبعاً، أن لا تكتفي أوروبا بانتقاد الإدارة الأمريكية لعدم القيام بما يكفي أو لعدم القيام بالشيء الصحيح في عملية السلام مثلاً، بل يعني أن عليها الخروج بأفكار ومبادرات خاصة بها. كما أنه يتضمن أن تصغي الولايات المتحدة لحلفائها وأن تقبل (جزئياً على الأقل) الوصف الأوروبي للوضع الجيوسياسي، والاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الأوروبية الخاصة بالمنطقة. سوف يتضمن هذا، إلى جانب أشياء أخرى، تناولاً أمريكياً أكثر توازناً لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية ولإيران ولفرص ظهور نظام تعددي من الداخل.
تعددية الأطراف والقيادة الأمريكية
تقدم المجموعة الرباعية من أجل السلام في الشرق الأوسط وخريطة الطريق الخاصة بها مثالاً واضحاً على التناول القائم على تعددية الأطراف رغم أن الخطة لم تنفذ بعد. تتيح التعددية استخداماً كاملاً للعلاقات والأدوات الخاصة المتوفرة لدى كلٍّ من الفاعلين في علاقتهم ببلدان الشرق الأوسط. لقد تم رسم خريطة الطريق في برلين وغيرها من العواصم الأوروبية، لكن لدى أوروبا سبباً وجيهاً لعدم ادعاء ملكيتها. إن تبنيها من قبل واشنطن ووصفها من قبل الإعلام الأمريكي بأنها “خطة الطريق الأمريكية من أجل الشرق الأوسط” مقبول تماماً من وجهة النظر الأوروبية. إن ما يهم حقيقةً هو ما إذا كانت هذه الخطة قد طبقت أم لا.
إن القيادة الأمريكية أمرٌ حيوي حقاً في هذا السياق، لأسبابٍ ليس أقلها النفوذ الأمريكي الأكبر على إسرائيل وكون إسرائيل تثق بالولايات المتحدة ولا تثق بأوروبا. من ناحيةٍ أخرى، يتمتع الاتحاد الأوروبي بثقةٍ أكبر عند الفلسطينيين. وفي الحقيقة، فقد أظهرت أوروبا نفوذها بتقديم معونة نشطة عندما قامت السلطة الفلسطينية بالإصلاح الداخلي الناجح إلى حدٍّ كبير.
علاقة الصراع العربي الإسرائيلي
تشدد الاستراتيجية الأمنية الأوروبية، عن حق، على الأهمية المفتاحية التي ستكون للتسوية السلمية للنزاع العربي الإسرائيلي (وخاصة الفلسطيني الإسرائيلي) بما يخص التطور السياسي والسياسة الأمنية والتطور الاقتصادي في المنطقة. لذلك فقد حددت حلّ الصراع العربي الإسرائيلي بأنه “أولوية استراتيجية بالنسبة لأوروبا”. وتقول هذه الاستراتيجية بأنه من غير حل كهذا “ستكون الفرصة قليلة للتعاطي مع المشاكل الأخرى في الشرق الأوسط”، أي أن تلك الأهداف الأوروبية من قبيل إحلال الديمقراطية والليبرالية، والتعاون الاقتصادي الإقليمي، وإنشاء منطقة تجارة حرة، والتعاون الأمني الإقليمي، لن تتحقق على الأغلب. أما منطق الولايات المتحدة، على عكس المنطق الأوروبي، فيتجاهل غالباً علاقة النزاع العربي الإسرائيلي والعملية السلمية بالتطورات الحاصلة في المنطقة كلها.
لا يعني هذا القول بأنه لا يمكن، ولا يجوز، السعي من أجل الإصلاحات في العالم العربي طالما استمر الصراع العربي الإسرائيلي. ثمة أسباب كثيرة لكون هذا الصراع غير المحلول يمثل عائقاً أمام العمليات الايجابية للتغيير السياسي والاقتصادي في المنطقة. من بين أشياء أخرى كثيرة، تستمر عدة أنظمة عربية بالاختباء وراء الصراع مع إسرائيل مع رفض النخب الحاكمة للإصلاحات الداخلية عبر الإشارة إلى حالة الحرب والنزاع. عندما يُحل النزاع لن تعود هذه الحجة صالحة، وستكون البنى السلطوية قد أُضعفت وفقدت شرعيتها. يؤدي استمرار الصراع إلى التشديد على دور العسكر أيضاً – في الدول العربية كما في إسرائيل – وفي دعم قبول الحلول العسكرية. إن النزاع المستمر يضفي شرعية على إساءة استخدام الموارد مع امتصاص الميزانيات الدفاعية نسباً تفوق نسب الإصلاح التعليمي. وعلى العكس من ذلك، فإن السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب سيساعد في انتشار القيم الديمقراطية ويقوي المجتمع المدني على الأرجح. إن من شأن تسوية مقبولة من الطرفين أن تقلل جاذبية المتطرفين الدينيين والقوميين ليس في الدول العربية المجاورة لإسرائيل فحسب بل في دول الخليج أيضاً مثل العربية السعودية.
فوق هذا، فإن عدم حل النزاع يشكل حاجزاً، مادياً في بعض الأحيان، أمام كثير من مشاريع التعاون الإقليمي التي ما انفك الاتحاد الأوروبي وغيره يحاولون ترويجها. فلنفكر، من بين أشياء أخرى كثيرة، بمشروع طريق السيارات – أو السكة الحديدية – الواصل بين شمال إفريقية والشرق (أو من أوروبا، عبر تركيا والشرق، إلى مصر)؛ أو بمشروع الميثاق الأورو-متوسطي من أجل السلام والاستقرار والذي كان من المفروض أن يتم تبنيه ضمن عملية برشلونة لكنه وضع على الرف بعد اندلاع حرب الاستنزاف الإسرائيلية الفلسطينية في خريف سنة 2000.
ليست هذه بالاعتبارات الوحيدة التي غالباً ما لا يراها الأمريكيون. فهم كثيراً ما يفشلون في إدراك مدى اعتماد مصداقية الغرب في المنطقة على جدية الجهود الأمريكية والأوروبية الهادفة لإيجاد حل سلمي عادل للنزاع في الشرق الأوسط. وعلى حين تتمتع أوروبا بقدر أكبر قليلاً من المصداقية بهذا الشأن فإن لهذه المصداقية حدودها. لقد صارت غالبية الجمهور في البلاد العربية وإيران مقتنعةً بأن الأوروبيين يظهرون الصداقة بينما هم يختبئون خلف الولايات المتحدة في نهاية الأمر حتى يتجنبوا أي فعل ملموس في الممارسة.
إنشاء البنى الإقليمية بدلاً إعادة فرض النظام
يميل صناع السياسة الأوروبيون، بفعل خبراتهم الاستعمارية، إلى التشكك بعض الشيء إزاء الخطط واسعة المدى لبناء “نظام جديد” في الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك فهم ميالون لإنشاء بنى إقليمية يمكن لها أن تساعد في خفض النزاع المحتمل بين الدول وتزيد من آفاق التغيير في البلدان المعنية، وذلك بدلاً من الاعتماد على التهديد بتغيير النظام من الخارج (أو تنفيذ ذلك فعلاً).
بالتالي، فإن أوروبا عموماً تناصر مأسسة العلاقات التعاونية التي من شأنها دعم أمن جميع الأطراف وتسهيل عملية التحول المحلي. يغتني التفكير الأوروبي بهذا الخصوص إلى حد بعيد بالتجربة التاريخية لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا – بنية مفاوضات متعددة الأطراف والأبعاد ساعدت على حفظ الاستقرار في أوروبا وتشجيع السعي إلى التغيير من قبل شعوب وسط أوروبا وشرقها. يمكن للدروس التي تم تعلمها ضمن عملية مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا أن تقدم نقاط انطلاق مفيدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقية.
تعتبر قطاعات كبيرة من النخب الاجتماعية في الشرق الأوسط، وليس نخب الأنظمة الشمولية وحدها، فكرة “إعادة ترتيب” المنطقة من الخارج تهديداً خطيراً. وفي الوقت نفسه، فإن لهذه النخب مصلحة في احتواء إمكانات النزاع الإقليمي وتقوية الأمن الإقليمي. طرحت فكرة مؤتمر للأمن والتعاون في الشرق الأوسط لأول مرة من قبل الفاعلين الإقليميين مثل ولي العهد الأردني السابق الحسن بن طلال. ومن المرجح أن الوقت ما زال مبكراً جداً لإطلاق وتطبيق مشروع بهذا الشمول يتضمن المنطقة كلها من المغرب أو موريتانيا إلى إيران. وفي النهاية فإن عملية من نمط مؤتمر للأمن والتعاون في الشرق الأوسط لكل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقية لن تتوج بالنجاح إلا إذا حلّ النزاع الإقليمي بين إسرائيل وجيرانها، أو إذا كان هذا الحل وشيكاً.
على كل حال، لا يستبعد هذا إمكانية تأسيس إجراءات ثقة تحت إقليمية وإجراءات لبناء الأمن أو حتى مفاوضات ومؤسسات من نمط مؤتمر للأمن والتعاون في الشرق الأوسط. ثمة آفاق جيدة، في كل من غرب المتوسط ومنطقة الخليج، من أجل إقامة صيغ محدودة من التعاون الأمني – السياسي يجب أن تدخل فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وآخرون من خارج المنطقة. سيكون من المعقول مثلاً إقامة مجموعة اتصال “ستة +أربعة+واحد” من أجل العراق (مؤلفة من جيران العراق والأعضاء الأربعة في اللجنة الرباعية من أجل الشرق الأوسط والحكومة العراقية الجديدة) لتعمل كمنتدى لمناقشة وتنسيق المسائل ذات الاهتمام المشترك من قبيل الأمن الحدودي والإرهاب وتجارة الأسلحة والمخدرات والجريمة المنظمة. بهذه الكيفية يمكن له أن يتطور مع الزمن إلى آلية أساسية لبناء الثقة والأمن في منطقة الخليج. ثمة فرص لأن تحوّل مؤسسة تنسيقية من هذا النوع جيران العراق، وهم أطراف مهتمون، إلى مساهمين في إعادة بناء العراق وفي استقراره.
البنى لا الأشخاص: نموذج فلسطين
في تعاملها مع الشرق الأوسط وغيره من المناطق، عادة ما تشدد أوروبا على بناء المؤسسات، بينما تشدد الولايات المتحدة على الأشخاص الذين يتولون مقاليد الأمور. إن هذا انعكاس جزئي للبنى المختلفة لهذين الكيانين السياسيين. في الولايات المتحدة تكون السياسة أكثر تشخيصاً ويكون صانع القرار الرئيسي أكثر أهمية. أما في أوروبا، ببناها المؤسساتية المعقدة، فلا أهمية كبيرة للأفراد (قارن مكالمة هاتفية من البيت الأبيض بمكالمة من رئيس المفوضية الأوروبية).
تمكن رؤية أوضح مثال لهذه الفروقات في طريقة التناول في النقاش الأوروبي الأمريكي بشأن كيفية التعامل مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. ربما يتفق صناع السياسة الأمريكيون والأوروبيون بشأن شخصية السيد عرفات؛ لكن، وفي حين قررت الولايات المتحدة مقاطعته، فإن الاتحاد الأوروبي يحافظ على العلاقات ويؤكد على أهمية بقاء المؤسسات التي ساعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في خلقها. لقد دعم مسؤولو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الانتخابات الرئاسية الفلسطينية عام 1996 وراقبوها. وبدلاً من المطالبة بتغيير في القيادة الفلسطينية يركز الاتحاد الأوروبي على تقوية الفرع التشريعي الفلسطيني ويؤيد إصلاحات إدارية واسعة النطاق. إن عرفات، بعد كل حساب، هو الرئيس العربي المنتخب ديموقراطياً أكثر من أي قائد عربي آخر. لا يعكس التناول الأوروبي تعاطفاً مع عرفات أو مع الفلسطينيين بالضرورة، لكن يجب التعامل بجدية مع كون المرء لا يستطيع أن يتجاهل خيار الشعب الفلسطيني إذا كان من دعاة “الديمقراطية العربية”.
إدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي
من حيث المبدأ، تتفق حكومة ألمانيا الاتحادية والإدارة الأمريكية – وإن لأسباب مختلفة نوعاً ما – على أن تركيا بحاجة لأن تمنح أملاً بعضوية الاتحاد الأوروبي. يجب أن يكون صناع السياسة الألمان والأوروبيون مدركين لأن لطريقة تعامل الاتحاد الأوروبي وأوروبا مع الرغبة التركية بالانضمام إلى الاتحاد أهمية كبرى لعلاقات أوروبا مع بلدان الشرق الأوسط على المديين المتوسط والبعيد.
ستغير عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي البارامترات الجيوسياسية لأوروبا بشكل جذري، حيث ستصبح كل من سورية والعراق وإيران جيران مباشرين للاتحاد الأوروبي. لكن لا حاجة بالمرء لاعتبار تركيا جزءاً من الشرق الأوسط “الكبير” حتى يصل لاستنتاج أن لتطوراتها الداخلية ولطريقة معاملتها من قبل أوروبا ستحمل أثراً مهماً على النقاشات والتطورات السياسية في بلدان الشرق الأوسط. إن تقديم منظور جدي لأنقرة بشأن قبولها في الاتحاد الأوروبي سيعزز من مصداقية السياسة الأوروبية فيما يتعلق بالبلدان الإسلامية الأخرى.
سيكون لقبول الاتحاد الأوروبي، أو عدم قبوله، بإدخال دولة كبيرة مسلمة السكان في فضائه الدستوري أثر كبير على الصورة العامة لأوروبا في البلدان الإسلامية الأخرى. إذا تناسينا الجدال الأوروبي الداخلي بشأن الإشارة إلى الله في الدستور الأوروبي، فلن تكون لدى الحزب الحاكم في تركيا صعوبة في التوقيع على صيغة من هذا النوع. السؤال هو ما إذا كان صناع السياسة الأوروبيون سيرفضون إدخال تركيا على أرضية ما يفترض بأنه هوية مسيحية للاتحاد الأوروبي أم لا.
إن من شأن الإدخال الناجح لتركيا أن يشير بوضوح إلى أن الإسلام يمكن حقيقةً أن يكون جزءاً من الثقافة الأوروبية. ومن شأن ذلك، في الوقت عينه، أن يدمر الأسطورة القائلة بحتمية الصراع بين الحضارات. فوق هذا، سيكون لإدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي (وحتى العملية المفضية إليه) أثر على التطورات السياسية الداخلية في البلدان الإسلامية الأخرى ولو كان ذلك بسبب إظهاره لأن الديمقراطية والتعددية وحكم القانون والحداثة السياسية وغيرها ليست بخواص أو صفات “غربية” حصراً.
وفي نهاية المطاف، فمن المرجح أن يكون أثر الإدخال الناجح لتركيا في الاتحاد الأوروبي أكبر من مفعول الدومينو الذي تتوقع بعض الدوائر الأمريكية أن ينتج عن تجربة التغيير الأمريكية في العراق.
المصالح المشتركة في العراق
بصرف النظر عن الخلافات المتعلقة بالحاجة للحرب في العراق أو بشرعية هذه الحرب، إضافة إلى تحليل الأخطار التي استخدمت لتبريرها، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتقاسمان مصلحة حقيقية في رؤية عراق مستقر وإقامة نظام تعددي قابل للعيش في بغداد مؤسسٍ على حكم القانون وعلى المشاركة الديمقراطية. وبسبب القرب الجغرافي، فإن مصلحة أوروبا في تحويل العراق إلى دولة تعددية تشاركية يمكن أن تكون أكبر حتى من مصلحة الولايات المتحدة بذلك. وعلى من يشك بهذا أن ينتبه إلى أن الوحدة الإقليمية للعراق (وهي شرط مسبق رئيسي للاستقرار الإقليمي) لا يمكن حفظها اليوم إلا إذا كان للعراق الجديد بنى فيدرالية ونظام سياسي تمثيلي يضمن المشاركة كما يضمن حقوق الأقليات.
بالنسبة لأوروبا، تترجم هذه المصلحة إلى مسؤولية أوروبية في دعم إعادة البناء الاقتصادي والسياسي في العراق. يجب أن تنعكس هذه المسؤولية أيضاً في الالتزامات المالية، بما في ذلك الاستعداد لإلغاء الديون وتقديم العون المالي من أجل إعادة بناء البلد اقتصادياً واجتماعياً. ومع تذكر المكانة الاقتصادية الممكنة للعراق، ستكون ثمة حاجة لنوع من خطة مارشال يعوض فيها ذلك البلد، بعد أن يقف على قدميه، المساعدات التي يتلقاها اليوم.
ليس العراق عوناً للعلاج الأمريكي ـ الأوروبي …
في الوقت عينه، لا يجوز قياس قرارات السياسة الألمانية والأوروبية بشأن العراق ـ بغض النظر عما إذا كانت تخص العون المالي والتقني أو المساهمات في تدريب الشرطة والجيش ـ من حيث قدرتها على المساعدة في شفاء الجروح عبر الأطلسي؛ بل يجب الحكم عليها من زاوية خدمتها المصالح الأوروبية في العراق وفي المنطقة الأوسع، وليس تحقيق الاستقرار والديمقراطية في العراق أقل هذه المصالح شأناً.
يعني هذا أنه من الصعب رد أية مطالبات بدورٍ محتمل للناتو إذا جاءت من حكومةٍ عراقيةٍ مستقلةٍ حقاً وإذا كانت مستندةً إلى تفويضٍ واضح من الأمم المتحدة. أما بشأن إمكانية وكيفية مشاركة أي من البلدان الأعضاء في الناتو في هذا الوضع فتكف عن كونها مسألة مبادئ وتصبح سؤالاً عن الاحتمالات والإمكانيات وعن القبول الذي يحظى به جنود كل بلد من قبل العراقيين.
بالنسبة للوقت الحاضر، وعلى كل حال، فإن نشر قوات الناتو أو وضع قطاعات معينة من العراق تحت سلطة الناتو ليس بالفكرة الجيدة. لن ينظر إلى قوات الناتو كشيءٍ مختلف عن قوة الاحتلال الأمريكية أو الخاصة بالتحالف. ما يجب التفكير فيه بدلاً من ذلك هو إقامةُ قوة أمن دولية صغيرة فعالة، من المثالي أن يكون ذلك اعتباراً من 30 حزيران 2004 أو قبل ذلك ، وتكون هذه القوة مكلفةً بحماية بعثة الأمم المتحدة حصراً. يمكن أن تكون لهذه القوة صفة شرطة من نوع خاص بدلاً من الصفة العسكرية. يمكن للبلدان التي تطالب بدورٍ قيادي للأمم المتحدة في العراق، مثل فرنسا وألمانيا وروسيا وبعض الدول العربية، أن تثبت التزامها تجاه كلٍّ من الأمم المتحدة واستقرار العراق عن طريق مشاركتها في هذه القوة. إن الحماية الفعالة أمرٌ حيوي لنجاح مهمة الأمم المتحدة. وفي كل الأحوال، لا يجوز أن يكون قائد هذه القوة وأفرادها مجبرين على التجول في البلاد تحت حماية الدبابات الأمريكية بحيث يعطون انطباعاً بأنهم مجرد امتداد لسلطة الاحتلال.
… وهو ليس نموذجاً يحتذى
أخيراً، من المهم بشكلٍ خاص عدم إثقال التجربة العراقية بالأحمال. لا يجوز معاملة العراق كنموذجٍ لديمقراطية الشرق الأوسط ولا كرأس جسر للمشاريع الخارجية الهادفة لإعادة تنظيم المنطقة. إن فرض نظام بواسطة القوة العسكرية، وحتى تنصيب حكومة جديدة أمرٌ سهلٌ نسبياً. أما بناء نموذج فهو أمرٌ أكثر صعوبة بكثير، وقد تكون محاولة فعل ذلك شديد التطلب من الفاعلين العراقيين. على كل حال، فإن جعل العراق رأس جسر للمشاريع الإقليمية هو طريقٌ أكيد لاستثارة ردود الفعل المعادية من جانب جيرانه بدلاً من إدخالهم في الجهود الرامية لتحقيق استقرار ذلك البلد.
كيف التوجه انطلاقاً من هنا؟
رغم كل الخلافات بشأن العراق أو بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط، تتقاسم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (الاتحاد وأعضائه) مصالح أساسية فيما يتعلق بالشرق الأوسط. يرغب كلٌّ من الأمريكيين والأوروبيين باستقرار العراق؛ وبحلٍّ على أساس دولتين حيث يستطيع الإسرائيليون والفلسطينيون العيش بسلام جنباً إلى جنب؛ وبوقف تكاثر أسلحة الدمار الشامل؛ وبممارسة أفضل للحكم في دول المنطقة؛ وبمحاربة الإرهاب وإفقاده شرعيته؛ وبتعاونٍ إقليميٍّ أوثق؛ وأخيراً، بتحسينٍ في الظروف الاقتصادية والاجتماعية في دول المنطقة. وأيضاً فإن أية مقارنةٍ بين استراتيجية الأمن القومي الأمريكي والاستراتيجية الأمنية الأوروبية ستكشف عدم وجود تباعد كبير بين تقديرات المخاطر الدولية وتقديرات التهديد والمخاطرة في الشرق الأوسط لدى كلٍّ من الطرفين. على كلِّ حال، تبقي الاختلافات بشأن المقاربات التي يجب إتباعها من أجل تحقيق هذه الأهداف وتجنب هذه المخاطر.
تلعب الجغرافيا دوراً هاهنا. فقد كانت أوروبا دائماً، بالنظر لقربها الجغرافي من شمال أفريقية والشرق الأوسط، أكثر اهتماماً بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي ومنع تدفقات المهاجرين الكبيرة أو الاستيراد المباشر للحروب الأهلية والنزاعات بين الدول إلى داخل أوروبا. لقد كان الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أكثر استعداداً للبحث عن اتفاقيات شاملة متعددة الأطراف بين جميع، أو معظم، اللاعبين الإقليميين؛ وقد كانوا مستعدين لعرض عون مالي أكبر مما تعرضه الولايات المتحدة من أجل التحول الاقتصادي والسياسي في المنطقة. تصل المنح والقروض الأوروبية الميسرة المقدمة إلى البلدان الجنوبية الشريكة (تحت الشراكة الأوروبية المتوسطية) إلى ما يقارب 3 بليون يورو سنوياً. أما الولايات المتحدة فكانت أكثر استعداداً لاستخدام القوة. وبالمقارنة مع أوروبا، فإن اهتمامها بالاستقرار في المنطقة كان محدوداً، وغالباً ما فضلت التعامل الثنائي مع دول المنطقة بدلاً من التعامل عبر الإطارات متعددة الأطراف.
مع ذلك، فقد عكست قمة الثمانية الكبار في حزيران 2004 اهتمامات عبر أطلسية مشتركة فيما يتعلق بالمنطقة. يتضمن هذا اعترافاً متزايداً بأن الحالة السياسية والاجتماعية ـ الاقتصادية في معظم بلدان المنطقة غير مقبولة، وبأن تسوية النزاع العربي الإسرائيلي مسألةٌ ذات أولوية. تقدم اللجنة الرباعية الدولية وخريطة الطريق إطار عمل مؤسساتياً ومشروعاً متفقاً عليه لاستئناف عملية السلام وللتسوية النهائية للنزاع. أما الاستعداد للتعاون بما يخص العراق، ضمن إطار الأمم المتحدة أساساً، فقد ازداد أيضاً.
فيما يتعلق بالمصلحة المشتركة في تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي المحلي في بلدان الشرق الأوسط، فثمةَ أدوات مختلفة جاهزة في أوروبا (عملية برشلونة أساساً، ومشروع الجوار الأوروبي الأوسع) وفي الولايات المتحدة (مبادرة الشراكة الشرق أوسطية). بالنظر للاختلافات في طريقة المقاربة وفي الأولويات والأدوات، فقد يكون من المفضل بالنسبة للحلفاء عبر الأطلسي أن يسيروا بطريقةٍ “متكاملة، لكن متمايزة”، كما هو الحال في “التقرير المؤقت بشأن الشراكة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي مع حوض المتوسط والشرق الأوسط” (آذار 2004). يمكن للمشاريع والبرامج الأوروبية أن تعاني من خسارة مصداقيتها إذا نُظِر إليها كامتدادٍ للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، أو كشيءٍ شديد الارتباط بها. إن الأمر بهذا الشكل منذ، بشكلٍ خاص، أن تزعزعت مصداقية وشرعية نشاط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعنف نتيجةَ انتهاكات حقوق الإنسان في سجن أبو غريب. من الصعب رؤية كيف تستطيع الولايات المتحدة الدفع باتجاه مبادرة الشرق الأوسط الكبير المتوجهة نحو الإصلاح ونحو حقوق المرأة والمجتمع المدني والإغناء السياسي عندما ينظر معظم مواطني وقادة المنطقة إلى الولايات المتحدة على أنها تنكر هذه القيم نفسها عبر ممارساتها الاحتلالية في العراق. وسيكون أمراً شديد الصعوبة على صنّاع السياسة في الاتحاد الأوروبي إطلاق برامج مشتركة مع الولايات المتحدة من أجل تشجيع حقوق الإنسان أو حكم القانون في الدول العربية وغيرها من دول الشرق الأوسط طالما تستمر الولايات المتحدة في ممارسة الاعتقال في غوانتانامو أو في رفضها التوقيع من جديد على اتفاقية المحكمة الجزائية الدولية.
الدكتور بيرثس هو رئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا في “Stiftung Wissenschaft und Politik ” ، المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، في برلين.
مجلة السياسة الشرق أوسطية، الجزء الحادي عشر، خريف 2004 – رقم 3